في ليالي رمضان، حين كان الدفء يسكن القلوب، حين كانت الأزقة تتزين بأضواء الفوانيس، وحين كان صوت المسحراتي ينساب بين الشرفات كهمس الزمن، وحين كانت المائدة عامرة قبل الطعام بالمحبة، كانت الدنيا تبدو أكثر سكينة، وكأن شهر الصيام يطهر النفوس قبل أن يطهر الأجساد.
كان البيت بيتا للجميع، والباب مفتوحا بلا انتظار، والقلب ممتلئا بلا قيد، وكانت اللمة طقسا مقدسا، لا يعتريه فتور ولا يحجبه عذر.
كان الجار أقرب من الأخ، يطرق الباب ليسأل: “هل لديكم ما يكفيكم” قبل أن يسأل عن نفسه.
وكان الصديق ظلا لا يفارق، يمتد معه السهر حتى الفجر، وتلتقي الضحكات على مائدة واحدة لا تعرف التصنع أو المجاملة.
كانت الشوارع تمتلئ بوجوه مألوفة، وكأن الجميع يعرف الجميع، وكان السؤال عن الحال عادة لا تكلف، بل ينبع من القلب فيجد طريقه إلى القلب.
واليوم… أين ذهب كل ذلك؟!
صرنا نجتمع ولكننا مشتتون، نتبادل الأحاديث لكن بلا روح، نضحك لكن ضحكاتنا جوفاء.
أصبح الجار اسما لا وجها، والصديق رقما في قائمة الاتصال، والسؤال عن الحال مجرد رسالة باردة ترسل على عجل دون انتظار الرد.
التكنولوجيا قربتنا ظاهريا لكنها صنعت بيننا جدرانا من زجاج، والوضع الاقتصادي أرهق القلوب قبل الجيوب، والسياسة سرقت من الناس فرحتهم حتى صار الهم زائرا لا يغادر.
لكن لا يزال رمضان يحمل الفرصة ليعيدنا إلى ما كنا عليه.
لا تزال هناك لحظات يمكن أن نصنعها بأيدينا، ولمة يمكن أن نحييها بكلمة طيبة، وقلوب يمكن أن نعيد وصلها بسؤال صادق.
ربما تبدل الزمن، لكن الدفء لا يموت، والروح التي سكنت رمضان يوما لا تزال قادرة على العودة.
كل ما نحتاجه هو أن نفتح أبوابنا، لا على شاشات صامتة، بل على قلوب تنبض بالود.
أن نطرق باب الجار بلا انتظار، ونمد أيدينا إلى الأصدقاء لا لحاجة، بل لأن الشوق فرض علينا اللقاء.
أن نعود لما كنا عليه، حيث كان رمضان دفئا يملأ الأرواح، وقربا لا يعرف التصنع، ومودة لا تشوبها مصالح، كما كان، وكما يجب أن يكون.