أرست الدعوة الإسلامية منذ فجرها الأول، أعظم صور العدالة بمفهومها الأشمل، إذ قام النبي الأعظم بتآخي المسلمين بعضهم بعضاً على نحو هو الأجمل، ضارباً ما تعتنقه الجاهلية وتتفاخر به في مقتل، فبعدالة الإسلام صار الزعيم زعيماً وأضحى الرقيق عتيقاً وغدا العدو رفيقاً في مشهد هو الأنبل، وبعدالة الإسلام وعلى يديه خير الأنام تفانى القوم وأنكروا ذاتهم في سبيل رفعة دينهم على الوجه الأكمل، وبعدالة الإسلام تساوى الناس جميعاً فقيراً وغنياً مريضاً وعفياً في أسمى مقام وأفضل، وبعدالة الإسلام انبرى النبي صلى الله عليه وسلم للحقيرة قبل الكبيرة فهو في الأرض أعظم مؤصل، فهي العدالة ذاتها التي جعلت كل الصحابة على مسافة واحدة من البذل والعطاء والخشوع والتبتل، وهي العدالة نفسها التي جعلت كل الصحابة يصدعون للحق بتدبر وتعقل، وهي العدالة ولا سواها التي ألهبت الصحابي تلو أخيه بأن يهفوا على طلب الشهادة وفي سبيل الله أن يقتل، ومن أحسن من الله صبغة وصنعاً ومن أحسن من رسول الله صدعا وهدياً ومن أحسن من الصحابة اتباعاً هو الأمثل، لله در رجلاً من الصحابة نزح من فارس عابراً بالموصل قاصداً دعوة التوحيد بمكة فعندها وفيها المعقل، ما أعظم الرجل سالم بن معقل بصوته القرآني العذب الذي سر رسول الله وأسر الصحابة مرتلاً حق أن يرتل، مجوداً بأجمل لحن لأجمل قول يا أيها المزمل، إن سالم بن معقل رضي الله عنه ليمثل ملحمة متشعبة موصولة المزايا في قلب رجل واحد، فهو الذي أقبل من اصطخر ببلاد فارس رقيقاً فأعتقته زوج أبي حذيفة بن عتبة، فتبناه أبي حذيفة ورعاه حق الرعاية، فلما نزلت آية تحريم التبني ( ادعوهم لآبائهم ) ، جاءت سهلة بن سهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ( يا رسول الله إن سالماً معي وقد أدرك ما يدرك الرجال، فقال أرضعيه فإذا أرضعته فقد حرم عليك ما يحرم من ذي المحرم ) فكانت تلك رخصة خاصة لسالم بن معقل، وهذا سالمٌ رضي الله عنه يعد في المهاجرين والأنصار على نحو سواء فقد أعتقته زوج أبي حذيفة وهو معدود أيضاً في الأنصار في بني عبيد، زوجه أبو حذيفة بن عتبة فاطمة بنت أخيه الوليد بن عتبة، ومن منقبة إلى أخرى يبزغ اسم سالم بن معقل في أفق النور والضياء، فهذه كرامة لم يبلغها غيره من الصحابة إلا قليلاً، تلك التي جعلته يؤم كبار الصحابة في الصلاة بمسجد قباء إبان مطلع الدعوة المباركة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت ( استبطأني رسول الله ذات ليلة فقال ما حسبك ؟ قلت إن في المسجد لأحسن من سمعت صوتاً بالقرآن، فأخذ رداءه وخرج يسمعه فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة، فقال الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك ) ويالها منقبة ويا لها مفخرة تجعل المرء في عليين، ثم يمنحه رسول الله صلى الله عليه وسلم وساماً كريماً رفيعاً آخر بقوله ( استقرئوا القرآن من أربعة – ابن مسعود وسالماً وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل ) ولله در فاروق الأمة ثاقب البصيرة صادق السريرة في معرفة الرجال بقوله ذات يوم عن سالم رضي الله عنه ( لو كان سالم حياً لوليته الأمر من بعدي ) وفي رواية لو كان سالم حياً ما جعلتها شورى، وكذا نقل عمر عن رسول الله أن سالماً شديد الحب لله تعالى، ثم هو سالم بن معقل يجود بنفسه وروحه في سبيل ربه، فقد شهد المشاهد جميعاً لم يتخلف عن واحدة قط، غير أن أعظم بطولاته حقاً كانت في حروب الردة، إذ أبلى يوم اليمامة بلاء ميسوراً مشهوداً عندما كان يحمل راية المهاجرين، ففي يومئذ اصطفاه ربه مع الذين اصطفاهم بالشهادة الكريمة لينال مع أقرانه الجزاء الأوفى في مقعد صدق عند مليك مقتدر، قتل سالم بن معقل بعد أن ترك ميراثاً زاخراً ذكياً من كل جوانب العظمة والإبداع، قتل الرجل الذي وفد من بلاد العجم الكافرة ليستقر مقامه في بلاد النور المؤمنة، فاستزاد منها خير زاد من العلم والإيمان على يد خير العباد، وكأنه يقول لا أبرح حتى أبلغ جوامع الشموخ قارئاً مثالياً للقرآن، بطلاً فدائياً في الميدان شهيداً عظيماً في الجنان —–
