الدبلوماسية المصرية ليست مجرد وسيلة للتواصل الدولي، بل هي مرآة تعكس هوية مصر الحضارية، ودرع يحمي سيادتها، وعقل يخطط لصون مصالحها في أروقة السياسة العالمية، فمنذ فجر التاريخ، أدركت مصر أن القوة لا تكفي لترسيخ مكانتها، بل لا بد من ذكاء سياسي وتفاوض دبلوماسي يحفظ استقرارها، وهكذا نشأت دبلوماسيتها متأصلة في عمق الدولة، متألقة عبر العصور، قادرة على التأثير في مسارات السياسة الدولية، متسلحة بالحكمة، ومستندة إلى تاريخ مجيد يرى في الحوار والعقلانية أعمدةً رئيسة للاستقرار والتنمية.
إنها فن إدارة المصالح بحكمة، وممارسة التفاوض ببراعة، حيث تجمع بين القوة والمرونة، وبين الحزم والاعتدال، وبين المصلحة الوطنية والمبادئ الأخلاقية، ومثلما ارتوت هذه الدبلوماسية من نيل الحضارة ونهلت من خبرة الأجيال، فإنها تظل نموذجًا يُحتذى في تحقيق التوازن بين الحفاظ على السيادة والانفتاح على العالم، وفي يومها الوطني تتجدد الثقة بأن الدولة المصرية، بتاريخها العريق وبعقول دبلوماسييها الفذة، وبإرادتها التي لا تعرف الانكسار، ستظل رائدة في سياساتها، وحامية لحقوقها، ورايتها خفاقة بين الأمم.
وقد جاء الخامس عشر من مارس ليكون شاهدًا على ولادة دبلوماسية وطنية خالصة عام 1922، حين أُنشئت وزارة الخارجية المصرية، إيذانًا بانطلاق سياسة خارجية مستقلة بعد أن كانت رهينةً لسلطات الاحتلال البريطاني، ومنذ ذلك الحين أصبح الجهاز الدبلوماسي المصري صمام الأمان للمصالح العليا للوطن، مؤكدًا حضوره الفاعل في المسرح الدولي، ساعيًا إلى ترسيخ المبادئ المصرية القائمة على الاستقلالية والسيادة وعدم التبعية لأي قوة، وسط عالم تعصف به وتتقاذفه العواصف والتحولات السياسية، وتتنازعه الأطماع الصراعات الإقليمية والدولية.
وعلى مر العقود أضحت الدبلوماسية المصرية سلاحًا استراتيجيًا حققت لمصر إنجازات لا تقل أهمية ولا تأثيرًا من الانتصارات العسكرية، إذ خاضت معارك تفاوضية وسياسية حاسمة، كان أبرزها تحقيق جلاء الاحتلال البريطاني عام 1954، بعد مفاوضات مضنية أكدت أن السيادة الوطنية تُنتزع بإرادة مُرسّخة مبدأ أن السيادة الوطنية لا تخضع للمساومات وأن الحقوق لا تُوهب، بل تُنتزع بإرادة صلبة وعقل واعٍ وصبر لا ينفد، وفي عام 1973 لم تكن الدبلوماسية بعيدة عن ساحة المعركة، فنجحت في تحويل النصر العسكري إلى مكسب سياسي عبر مفاوضات أفضت إلى استعادة سيناء بالكامل عام 1982، في إنجاز تاريخي يُعد نموذجًا حيث جسَّد قدرة السياسة على تحقيق أهداف الوطن دون اللجوء إلى السلاح ودون أن تتنازل عن شبر واحد أو تفرّط في مبدأ من مبادئها الوطنية.
وجدير بالذكر أن الدبلوماسية المصرية لم يقتصر دورها علي الدفاع عن المصالح الوطنية، بل امتد إلى القضايا العربية والإفريقية، حاملة لواء العروبة ومدافعةً عن حقوق الشعوب خاصة في تقرير مصيرها؛ فكانت ولا تزال صوتًا قويًّا في دعم القضية الفلسطينية، وحماية الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني عبر المساعي الدبلوماسية في الأمم المتحدة، والوساطات الهادفة لتحقيق المصالحة وإنهاء النزاعات، كما بقيت القاهرة حاضنةً للقرار العربي، تجمع الفرقاء، وتوحد الصفوف، إيمانًا منها بأن الوحدة العربية هي الدرع الواقي أمام التحديات الإقليمية والعالمية.
أما على الصعيد الإفريقي فقد أدركت مصر منذ القدم أن مصيرها مرتبط بمصير قارتها السمراء الفتية، وأن أمنها القومي جزء لا يتجزأ من أمن إفريقيا؛ فانخرطت في دعم حركات التحرر، وأسهمت في تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية التي عرفت بالاتحاد الإفريقي لاحقًا، ولعبت دورًا محوريًا في تحقيق الاستقرار والتنمية بالقارة، ومع استمرار التحديات، واصلت مصر تأكيد حضورها بالدول الأفريقية الأشقاء، ساعيةً إلى تحقيق التكامل الاقتصادي وتعميق العلاقات والتعاون التنموي، ومدركةً أن قضايا المياه والطاقة والغذاء باتت مصيرية تتطلب تضامنًا إقليميًا لمواجهتها.
أما بالنسبة للساحة الدولية، فقد حافظت الدبلوماسية المصرية على توازن دقيق بين مختلف القوى العالمية، مرتكزةً إلى مبدأ الاستقلالية في اتخاذ القرار الوطني، بعيدًا عن سياسة المحاور والاصطفافات الضيقة، بل بنت علاقاتها على أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، فكانت لها شراكات وثيقة مع الولايات المتحدة، وعلاقات متينة مع روسيا والصين، وتعاون استراتيجي مع الاتحاد الأوروبي، ساعيةً إلى تحقيق المصالح المشتركة دون التفريط في ثوابتها، كما نجحت في استغلال هذه العلاقات لدعم الاقتصاد الوطني، وجذب الاستثمارات ورؤوس الأموال العالمية، وتحقيق التنمية المستدامة، وترسيخ مكانتها كمركز إقليمي ووجهة اقتصادية واعدة في المنطقة للتجارة والصناعة والطاقة.
ووسط هذا الزحم لم تغفل الدبلوماسية المصرية التحديات الأمنية، ولم تكن بمعزل عن تعقيدات الأوضاع الإقليمية وتصاعد الأزمات العالمية، فإدراكها أن الإرهاب لم يعد خطرًا محليًا، بل أصبح تهديدًا عالميًا يستوجب تعاونًا دوليًا للقضاء عليه ومن هذا المنطلق انتهجت سياسة قائمة على المبادئ والانفتاح المدروس على مختلف القوى، ولعبت دورًا محوريًا في محاربته عبر التعاون الدولي والاستخباراتي؛ لكنها لم تكتف بالمواجهة العسكرية، بل قدمت نموذجًا رائدًا في معالجة جذور التطرف من خلال التنمية الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وتجفيف منابعه، والتصدي لأيديولوجياته.
وفي يوم الدبلوماسية المصرية تتجدد العزيمة، وتُشحذ الهمم، ويُستعاد مجد السياسة الحكيمة، التي كانت وستظل قوة ناعمة تحمي السيادة وجسرًا يمتد نحو آفاق المستقبل شاهدة على نضال أمة لا تنحني إلا لله، وتُوطن مكانة مصر بين الأمم، وتخطو بثقة نحو مستقبل أكثر إشراقًا، فوسط عالم يموج بالصراعات، وتتحول فيه موازين القوى، تبقى مصر بثقلها الحضاري، وحنكة دبلوماسييها، ركنًا ثابتًا لا تهزه العواصف، وكيانًا فاعلًا يفرض حضوره بحكمة ورؤية ثاقبة؛ وليظل هذا اليوم شاهدًا على مسيرة دبلوماسية مجيدة، تُسطِّر كل يوم فصولًا جديدة في تاريخ العزة والكرامة، ورسالةً للعالم بأن مصر لا تزال وستظل دولة تصنع التاريخ وتبني الحضارة.
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر