في هذه الأيام نتنفس نسائم وعبير الذكري السادسة والستين لثورة يوليو 1952 بقيادة الزعيم الخالد جمال عبدالناصر.
إنها الثورة الملهمة وأم الثورات العربية والأفريقية بل ثورات كثير من دول العالم الثالث.
إنها الثورة التي حررت مصر من الاحتلال البريطاني منذ عام 1882.
إنها الثورة التي ارادت وعملت لتحرير المصريين من بؤس الفقر. وظلمات الجهل. ومعاناة آلام المرض.
اختطت وسلكت طرائق الاستقلال الوطني الذي لا يتحقق إلا بأركان العدالة الاجتماعية يحياها ويتمتع بها المصريون عندما يأخذون حقوقهم في ثروات بلادهم بالعمل الشريف بإتقان. والكفاءة الحق بالعلم.
أطلق قادتها ــ في البداية ــ عليها اسم “الحركة المباركة” ولكن الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي صاحب “المعذبون في الأرض” هو الذي وصفها وأطلق عليها “الثورة” وكان طه حسين محقا فهو يعرف قيمة وصدق عليه المؤرخون الثقات ذوو النزاهة العلمية والرؤية المتكاملة من المصريين والأجانب فأخرجوا للتاريخ مئات الكتب وآلاف المقالات العصية علي العد والحصر باللغة العربية واللغات الأجنبية.
وما كانت تلك الكتابات إلا شهادات حقة حية علي عظته ما أحدثته تلك الثورة في سجل تاريخي مشرف لمصر والعرب وأفريقيا وكثير من دول العالم الثالث.
وهنا يبرز السؤال: لماذا كانت ثورة يوليو 1952؟
يجيب عن هذا السؤال الذين اعتمدنا علي كتاباتهم لنعرف كيف كان حال مصر والمصريين قبل الثورة.
يقول سيد أبوالريش في كتابه “جمال عبدالناصر آخر العرب” الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية 2005 صـ 22 عن واقع مصر: “كانت نسبة الباشوات في الثلاثينيات أقل من 2 بالمئة من مجموع السكان لكنهم كانوا يمتلكون ما ينوف علي 65 بالمئة من الأرض. وكانوا يستخدمون ويستغلون ما يزيد علي أربعة ملايين من الفلاحين الذين يعملون في أراضيهم. وكان الفلاح المستأجر يقوم علي خدمة فدانين من الأرض. وله نصيب ضئيل مما ينتجون.. هؤلاء الفلاحون لا يكادون يمتلكون لمن يفرض الباشا عليهم”.
كانت الفوارق الطبقية شاسعة جعلت التمايز والتميز الاجتماعي بين المصريين هائلا فهذا هو حال الفلاح المصري يقول عنه المؤرخ الكبير الدكتور رءوف عباس في كتابه “صفحات من تاريخ الوطن” صـ 92 “ترجل الفلاح عن دابته إذا مر بمجلس أحد الأعيان أو حتي انتزاعه نعليه والسير حافيا إذا مر أمام أحد هؤلاء. أو ما كان شائعا قبل ثورة 1952 من تقبيل الفلاح ليد صاحب الأرض “السيد” حتي لو كان صبيا غض الإهاب”.
هل نتذكر بؤس حال الفلاح المصري قبل ثورة 1952 الذي أورده المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي في كتابه: “مصر والسودان في أوائل الاحتلال” حيث يذكر لنا ما قاله الأمير حسين كامل عن تلك الحالة المزرية: “إن الفلاح يقضي حياته مثقلا بالدين. لا يزيد ايراده علي الضرائب المفروضة وفوائد الديون المطلوبة منه. وهو لكي يسدد حاجات زراعته في مواعيدها مضطراً دائما إلي الاستدانة بالربا الفاحش بهذا العسر من جهة. ولخلوه من المال من جهة أخري” ولكثرة من يعولهم من جهة ثالثة. قد بقي الفلاح غريقا في بحار الضنك لا يعرف لنفسه مخلصا منها.
انني أرجو من القارئ العزيز أن يعود إلي السيرة الذاتية لأستاذ الاقتصاد السياسي الدكتور خليل حسن خليل التي تحولت إلي مسلسل تليفزيوني تحت اسم “الوسية” في الجزء الأول من سيرته.
تلك السيرة التي تؤرخ التاريخ السياسي والاجتماعي لمعاناة المصريين قبل ثورة يوليو 1952.
لقد صدق أحد الاقتصاديين المؤرخين عندما وصف مصر قبل ثورة 1952 بأنها “بقرة حلوب لبنها وخيرها ليس لأبنائها”.
يذكرنا بحال مصر قبل ثورة 1952 كتاب “التصنيع في مصر: 1939 ــ 1973” تأليف: روبرت مايرو وسمير رضوان بترجمة صليب بطرس الصادر عن الهيئة العامة المصرية للكتاب صـ 41:: “كان تركز رءوس الأموال في أيدي الأجانب وكبار ملاك الأراضي سبباً في توجيه الاستثمارات إلي الأراضي الزراعية دون تصنيع”.. ونواصل في المقال التالي بإذن الله