إنها الذكري الثامنة والأربعون لغياب جسد الزعيم الخالد جمال عبدالناصر عن الدنيا. ولكنه حاضر خالد في قلوب الكثيرين من المصريين والعرب. وفي قلوب الأفارقة يتربع وفي كل بقعة من العالم عانت الاستعمار ساعد عبدالناصر في تحريرها. فأبناء آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية يقدرون نضاله وكفاحه وجهاده في سبيل أن يمتلكوا مصائر بلادهم. يهتفون باسمه حتي الآن وفاء وإجلالا.
لقد حفر عبدالناصر اسمه في تاريخ مصر والعرب بل العالم بأنصع الصفحات. والمقالات والكتب التي بلغت الآلاف ولم ينقطع سيلها المنهمر بلغات مختلفة في العالم.
وحارت نفسي أسألها ماذا أكتب عن جمال عبدالناصر في مقال أو أكثر؟
وهداني تفكيري بعد تعب ونصب أن أكتب عن منهج العدالة الاجتماعية الذي اختطه عبدالناصر وعمل علي تحقيق مجتمع العدالة الاجتماعية مجتمع الكفاية لا الكفاف. كان منهجه نابعا من قيمنا مستندا إلي منهج اشتراكية الإسلام وليست اشتراكية ماركسية تنحي الدين جانبا.
ولم أجد أفضل مما كتبه الدكتور أحمد شلبي أستاذ التاريخ الإسلامي في كلية دار العلوم جامعة القاهرة. وله باع كبير في كتاباته في التاريخ الإسلامي والاقتصاد الإسلامي والشريعة. لقد وجدت للدكتور أحمد شلبي مقالا كاملا متكاملا جامعا مانعا بعنوان “اشتراكية عبدالناصر والإسلام” ضمن مقالات ضمها كتاب “بطل العروبة والإسلام جمال عبدالناصر” أصدرته لجنة التعريف بالإسلام عن المجلس الأعلي للشئون الإسلامية في 5 نوفمبر 1970 أي بعد وفاة عبدالناصر في سبتمبر 1970
أنحي نفسي لأعرض بعض ما جاء في هذا المقال المهم من كتاب ربما يكون من الندرة قراءته.
يرصد د. أحمد شلبي الجانب الاقتصادي لمصر قبل ثورة 1952 وموقف الإسلام منه قائلاً:
“كانت مصادر الثروة في مصر مكدسة في أيد قليلة سواء في ذلك الثروة الصناعية أو الأرض الزراعية أو المتاجر الكبيرة وكثير من هذه الثروات كانت في أيد أجنبية. وذلك وضع لا يرتضيه الإسلام ولا يقبله الفكر السليم. انه تحكم طبقة قليلة في مصير الجماهير. ولم يكن لهذه الطبقة من هم إلا جمع المال علي حساب العامل الكادح والمستهلك المسكين والقرآن الكريم يذم هذه الاتجاه قال تعالي: “كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم”.
“أي لئلا يكون المال محصورا في الأغنياء منكم متداولا بينهم وحدهم” ص106
ثم يقول د. أحمد شلبي: “ترتب علي الوضع السابق أن وجدت في مصر طبقتان بعيد ما بينهما. هما طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء. بل طبقة المتخمين وطبقة الجائعين. والاسلام لا يقر هذا الوضع. فيأخذ من الغني ما يحتاجه الفقير من مطعم وملبس ومسكن.
ولنتذكر قول الرسول في هذا الشأن: “من كان له فضل زاد فليعد به علي من لا زاد له” وقوله: “ما آمن بي رجل بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم”. وتطبيقا لهذه القاعدة “كان يمكن أن يؤخذ من الأغنياء أكثر مما أخذت قوانين يوليو “1961” وأن يستمر الأخذ حتي يحصل المحتاج علي كفايته. فلا إقرار للغني في الإسلام مع وجود حاجة” ص106. ص107
ثم يقول د. أحمد شلبي: “ان اشتراكيتنا الحديثة التي عبرت عنها قوانين يوليو سنة 1961 ليست فقط تؤمن بالملكية الفردية التي هي مبدأ هام من مبادئ الإسلام. بل تعمل جاهدة لنقل المعدمين إلي ملاك صغار “ص108
ثم يقول: “وفي الحقيقة هناك أكثر من جانب اسلامي يجعل تحديد الملكية الزراعية عملا ليس فقط مشروعا بل ضروريا ولازما فهناك مثلا المبدأ الإسلامي وهو عدم تجميع الثروات في أيد قليلة. ومن الواضح أن الملكية الزراعية قبل الثورة كانت تجميعا للثروة الزراعية في أيد قليلة كما تدل علي هذا الاحصائيات التي يمكن اجمالها في أن 2% من الملاك كانوا يملكون 50% من مجموعة مساحة الأرض المنزرعة للواحد في المتوسط. في حين يملك مليونا ونصف من الأفراد “33%” من الأراضي المنزرعة بنسبة أقل من نصف فدان للفرد في المتوسط.. وقد كانت الملكية الزراعية قبل القوانين الاشتراكية تتحكم في الناس وكانت اقطاعاً يملك فيه المالك الأرض ورقيق الأرض وهناك أيضا الفقير المحروم الذي ورث الحرمان عدة أجيال ويتيح الفكر الإسلامي لولي الأمر إصلاح حال هذا المحروم واتاحة الفرصة له لحياة كريمة.
وهناك المأساة الكبري التي كانت تقضي علي الكفاءات وتقتل المواهب الطيبة وتفرض الطبقية الثابتة. فابن الطباخ يرث مهنة الطبخ عن أبيه. ويرث ابن الزارع الفأس والكدح عن أبيه مهما كان ذكاؤه ومهما كانت عبقريتة أما ابن الاقطاعي فتفتح له المدارس وينجح بألوان مختلفة من الدفع. وتسند له أمور الأمة موظفا ومالكا وعضوا للبرلمان ووزيرا مهما كان قصور عقله وضحالة تفكيره وتلك مأساة كبري يعود شرها علي المجتمع كله” ص109 وص110.
وكم كان د. أحمد شلبي قاطعا في ختام مقاله عندما يقول في ص116 “وأخيرا فقد برهنت الأحداث علي أن هذه القوانين الاشتراكية كانت محققة لهدف أساسي من أهداف الفكر الاسلامي الاقتصادي. ذلك هو العدالة الاجتماعية فقد عادت علي الفلاحين والعمال بألوان من الربح أدخلت عليهم الرخاء وفتحت بيوتهم وعقولهم وقلوبهم وجعلتهم أعضاء صالحين في المجتمع بعدما كان الضعف والهزال طابعهم.. تلك هي قوانيننا الاشتراكية التي كانت بلاشك تطبيقا رحيما للفكر الاسلامي في شئون الاقتصاد فرحم الله منشئ هذه الاشتراكية”.
ونحن نقول رحمك الله يا عبدالناصر في عليين بمشيئة رب العالمين وفي سجل الخالدين في تاريخ الإنسانية.