“لقد صار المصريون مهمومين بالإستعلاء والتفاخر والإستقواء على بعضهم البعض وبإشعار من هم دونهم أو أعلى منهم دخلا ومكانة إجتماعية بأنهم الأفضل “. تلك مقولة هامة جدا للمفكر الدكتور جلال أحمد أمين الذي رحل عن دنيانا الثلاثاء الماضي، ووردت في كتابه القيم ( ماذا حدث للمصريين ؟ ) الذي شخص فيه برؤية الخبير الواعي أهم الأمراض التي سادت المجتمع المصري وتعرقل إصلاح الأحوال .
فيرى المفكر الأمين :” أن مرض المصريين بـ (الحراك الإجتماعى) يعوق تقدم المجتمع ويعد سببا رئيسيا فى تعاسته على المستويات الثقافية والسياسية والإجتماعية، وأن علاج السياسات الحكومية لن يجدى وحده لوقف تدهور حال المصريين، لأن مرض المصريين ليس سياسيا محضا بل هو إجتماعى إقتصادى ويحتاج عقودًا لعلاجه”.
ولقد رأينا جميعا هذا المرض متمثلا في شيوع المقولة سيئة الذكر :” أنت تعرف أنا ابن مين ؟!” ، التي كان ينطق بها دائما من يخترقون القانون إستنادا إلى سلطان مستمد من ثروة أو نفوذ . وسجلت لنا الأفلام والمسلسلات والروايات ، وقائع كثيرة تمكن فيها مجرمون من الإفلات من العقاب بمجرد تلقى المسئول مكالمة تليفونية من مصدر مجهول . وسجلت لنا أيضا التوقف عن تتبع بعض قضايا الفساد لمجرد ان المتورطين فيها لديهم صلات بشخصيات نافذه. كما سجلت لنا حصول البعض على مزايا وظيفية دون وجه حق لمجرد أنهم أبناء أثرياء أو أقرباء لأصحاب النفوذ.
رأينا هذا المرض في المبالغة في جهاز الزواج وشراء ما لا يلزم للعروسين ، والمصاريف الباهظة في حفلات الزفاف والتي تصل تكلفتها أحيانا عشرات الملايين من الجنيهات ، فقط من أجل الوجاهة ، والإثبات أننا لسنا أقل من الآخرين أو أعلى من الآخرين . رأينا هذا المرض أيضا في حرص كثير من الأسر الفقيرة على الذهاب للمصيف سنويا حتى ولو بالاقتراض وذلك تشبها بطبقات أخرى. رأينا المرض أيضا في تطاول الفلاحين في البنيان وتحول البيوت الريفية الى عمارات عالية ، وإنتشار الشقق المؤجرة والمقاهي والسوبر ماكت في القرى لمجرد إثبات أن القرية ليست أقل من المدينة.
وتساؤل اخر حائر طرحه المفكر الراحل يتعلق بتأخر الإصلاح ، فقد كانت لديه رؤيه للإصلاح تتضح في قوله :” نحن دائمو الشكوى والمطالبة بالإصلاح في العالم العربي، دون أن يتحقق هذا الإصلاح، أوجه الإصلاح المطلوبة كثيرة وواضحة وضوح الشمس، ووسائل الإصلاح ليست عصية على النحو الذي يتصوره كثيرون ، فالإصلاح لدينا من قبيل (السهل الممتنع)، يبدو واضحا وسهلا، ولكن، لأسباب غامضة، يبدو وكأنه مستحيل التحقيق”.
وكان الرجل أمينا في توضيح سبب تأخر الإصلاح في قوله :” أعرف أن التفسيرات المحتملة كثيرة، تتراوح بين لوم الغير ولوم النفس، ولكن هناك شيء قد نتفق جميعا عليه، وهو أننا كثيراً ما نعهد بمهمة الإصلاح إلى غير المؤهلين له، سواء لضعف قدرتهم عليه أو ضعف رغبتهم فيه، فتكون النتيجة بالطبع هي عدم تحقق الإصلاح واستمرار الناس في الشكوى”.
تساؤلات كثيرة حائرة طرحها المفكر الاقتصادي والاجتماعي الراحل في 30 كتابا ومئات المقالات والدراسات ، ولا تزال في إنتظار الإجابة ، فهل من مجيب ؟!.
رحم الله المفكر الدكتور جلال أمين ، ورحم الله والده المفكر الراحل أحمد أمين صاحب موسوعة فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام.