وقف مشدودا يكافح لتصل يده إلى القواطع الاستنلس بعربة المترو لتحميه من الوقوع كلما مادت رجلاه، ولأنه قصير القامة أخذ يمط جسمه ويقف على أطراف أصابعه وهيهات هيهات أن يصل، ولما أعيته الحيل رضى بالأمر الواقع، واستقر فى مكانه يموجه القطار أثناء سيره، فكان يستند على من بجواره كلما هم بالسقوط، وأثناء معاناته شدة قصره، وحذره الوقوع ألفى بجانبه رجلا ضخم البنية، طويل القامة، أمسك بقاطع الاستنلس بسهولة ويسر ووقف يتباهي بعضلاته المفتولة وبنيته الضخمة .
كانت يد المفتول كلما أسرع القطار تلتطم بوجه الشاب القصير ، الذى ضاق ذرعا فاضطر إلى لومه فرد عليه ساخرا : أعملك أيه ما أنت قُصير؟
نزلت هذه الكلمة على أذنى ومِن قبلى الشاب وآخرين نزول الرعد ، متسائلين : ألكونه قصيرا تدوسه الأقدام ، ولا يرقب فيه القوى ذمة ولا رحما؟ أوصل الجور والظلم بيننا إلى هذا الحد ؟ وهل هذه هى روح الإسلام السمحة التى لاقى النبي من أجل ترسيخها كثيرا من عنت قومه وإيذائهم له ، ودخل كثير من الناس بسببها فى دين الله أفواجا ؟!
والسؤال ماهذه القسوة التى طرأت على مجتمعنا، فأصبح الأخ يُعادى أخاه، والجار يُقاضى جاره، صار المرء لا يأمن على ماله ونفسه وولده وأهله، أضحى زماننا مُغايرا زمن السابقين.
كان الناس قديما فى رباط ومودة. الجار يصون بيت جاره ويحفظ أهله وماله وعرضه. القوى يحنو على الضعيف، يرعى شئونه ويُلبى مطالبه . المجتمع كله يكفل الفقير ويسُد حاجته، كان الناس كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، فأنزل الله عليهم بركة فى الرزق، الذى كان برغم قلته يكفى ويزيد ، وبركة فى الأهل والولد، كانت هناك ـ بفعل تلك السماحة التى عمت المجتمع بأسره ـ راحة فى القلب وطمأنينة فى الفؤاد .
أما فى زماننا هذا، فقد سقطت قيم كثيرة وحلت محلها سلوكيات شاذة غريبة عن مجتمعنا، فشاع الظلم والجور والطغيان، حلت القسوة محل العطف، الشدة محل اللّين، الغضب محل الحلم ، والكذب محل الصدق، انتشر ترويع الآمنين، فشت روح الاستسهال والاستهبال والفهلوة، تغير مفهوم الشطارة فصارت تعني أن تضحك على أخيك وتسلبه ماله، انتشرت البلطجة وقطع الطرق، فماذا ننتظر ممن ربنا الموصوف بالعدل ؟
هل ننتظر سعادة ورخاء ؟ كلا والله، فقد جاء الجزاء من جنس العمل، فألفينا هذا يعانى شظف العيش، وذاك يشكو نشوز زوجته وثالثا يبكى عقوق أولاده، ورابعا يشكو جورا وظلما، وخامسا يقاسى غلاء ومرضا، كل هذا بما كسبت أيدينا ويعفو الله عن كثير.
أريد أن أقول إن صلاح المجتمع وعدل الراعي، ورغد العيش محال أن يتحقق إلا بصلاح أنفسنا وتمسكنا بروح الإسلام السمحة التى فتحت البلاد، وأذعنت لها قلوب العباد، تلك الروح التى بسيادتها وتمكينها لن تجد على الأرض أثرا لظلم أوصورة لجور، لن تجد قطعا لطرق أو سرقة لبيوت، لن تجد اعتداء على النساء وهتكا للأعراض، لن تجد كذا وكذا من أمراضنا العضال و صدق الله القائل:( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ).