ارتبطت حياة كل المصريين قديما وحديثا بالنيل، هذه حقيقة لا يجادل فيها أحد ، ولكن هناك ارتباط من نوع خاص أشعر به شخصيا، ويشعر به غيري من ملايين المصريين الذي ولدوا على بعد أمتار من النيل في القرى والمدن التي تقع على شاطئيه أو شواطئ الترع والقنوات التي تفرعت منه . فقد ولدت ونشأت في قرية المنيرة التابعة للقناطر الخيرية وتفتحت عيني على ترعة الساحل التي كانت تحدها من جهة الغرب . وأقول كانت لأنه ردمت الآن بعد أن امتدت المباني على شاطئيها وتلوثت مياهها بسبب إلقاء الأهالي كل أشكال المخلفات فيها مثل حال كل الترع في بر مصر، ويحدها من الشرق الرياح التوفيقي الذي اعتدنا على تسميته بالبحر أو ( المتر ).
وقد ارتبطت مراحلنا العمرية بالنيل، ففي سنوات الطفولة كان يمكننا الاستحمام والتمشية على الترعة فقط ، أما الاستحمام والتمشية على البحر فلا يقربها إلا الكبار.وكنت وكل أطفال القرية نحلم باليوم الذي نكبر فيه لنمشى ونستحم في البحر بمفردنا دون مرافقة الكبار خوفا من الغرق. وكان الاستحمام في البحر مقياسا للشجاعة والرجولة ، أما الأبطال فهم الذين يتمكنون من عبور البحر ( المتر ) إلى الشاطئ الاخر وكان يشار إليهم بالبنان ويتلقون التهاني من الآخرين. ورغم غرق بعض الشباب أثناء محاولتهم عبور البحر ، إلا أننا لم نتوقف عن مغامرة عبوره رغبة في التتويج بهذه البطولة مبكرا. وأنا شخصيا لا أنسى فرحتي الكبرى عندما تمكنت من عبور البحر ودخلت في قائمة السباحين المهرة بالقرية والتي كانت ترددها كثيرا الألسنة خاصة الأطفال الذين كانوا يتباهون بأشقائهم العابرين قائلين ” اخي عدى البحر ” .
وتحضرني ابتساماتنا البريئة عندما كنا ننجح في التسلل من أهالينا أثناء نومهم القيلولة وقت الظهير للإستحمام في الترعة أو البحر وننحج في العودة اليهم قبل استيقاظهم مع أذان العصر. وكان مصدر خوف الأهالي أن يغرق أحدنا ، وليس خشية التلوث فقد كانت مياه النيل في أيام طفولتنا نقية يشرب منها الانسان والحيوان والطير والزرع.
وارتبط بالنيل تكويننا الثقافي ، فكانت أفضل ساعات المذاكرة أو القراءة التي تتم على البحر او الترعة خاصة في وقت الصباح الباكر او بعد العصر ( العصرية) حيث يكون الذهن حاضرا بفعل صفاء المياه وخضرة الزرع والشجر ونقاء الأجواء. وكانت أمتع اللقاءات والحوارت بيننا تتم ونحن نتمشى أو نجلس على البحر . وكانت عبارة ” نتآبل على البحر ” تتردد كثيرا كل يوم سواء للمذاكرة والقراءة أو للحوار أو للترفيه ، أما عبارة ” لما نتآبل على البحر” فكانت تقال لإستكمال حوار سريع بدأناه .
وارتبط النمو العاطفي ايضا بالنيل ، فرغم أن الحب بين الفتى والفتاة بالقرية كان عيبا يصل إلى درجة التحريم ، الا أن بعض الأحبة كانوا يسعدون باختلاس لقاءات سريعة على شاطئ البحر في اماكن بعيدة عن الأعين، على نغمات أغنية ” على شط بحر الهوا رسيت مراكبنا “.
حتى عراك الطفولة ومشاجراتنا البسيطة ارتبطت بالنيل . فعندما كان يتخاصم اثنان يتواعدا على العراك عند البحر او على الجسر بعيدا عن الأهالي حتى لا يتدخلون . فيحضر كل متخاصم ومعه انصاره .وتقتصر المواجهة على التراشق اللفظي ثم تبدأ المساعي الحميدة ويتم الصلح ونعود جميعا فريقا واحدا بعد ان كنا خرجنا فريقين. وهنا يكمن الفارق في التغيرات الخطيرة التي طرأت على المجتمع المصري حاليا حيث تحول مشاجرات الاطفال حاليا الى قتال دامي بالأسلحة البيضاء
سرحت مع تلك الذكريات الجميلة وأنا اسمع وأرى احتدام الصراع على مياه النيل. واتذكر بحسرة قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي “النيل العذب” التي يقول فيها :
النِّيلُ العَذْبُ هو الكوْثر والجنة ُ شاطؤه الأخضر ْ
ريَّانُ الصَّفحة ِ والمنظرْ ما أبهى الخلدَ وما أنضرْ!
البحرُ الفَيَّاضُ القُدسُ الساقي الناسَ وما غرسوا