من نكد الدنيا على العرب المحدثين أن ظهر فيهم تيار يتكلم بلسان إسرائيلي أمريكي متصهين، وينقلب على الثوابت الوطنية والقومية بكل فجور، وبعد تصاعد الصراع وتعدد المواجهات والجبهات لم يعد هذا التيار يتكلم من وراء حجاب، وإنما صار مكشوف الوجه، ينبئ عن نفسه بأعلى صوت مدعيا الواقعية والحكمة، وهو في الحقيقة عراب للانبطاح والاستسلام.
لقد صدقت نبوءة المفكر العظيم الدكتور عبد الوهاب المسيري التي حذر فيها قبل وفاته من الصهيوني الجديد، الذين ليس يهوديا وإنما هو مسلم، يرتدي ثيابنا ويتحدث لغتنا ويصلي العشاء معنا، لكنه يلعب دور اليهود، ويمثل إسرائيل خير تمثيل، هذا اليهودي الجديد (اليهودي الوظيفي) سيكون أشد خطرا، وسيقوم بالوظيفة التي كان يقوم بها قديما الجنرال أو التاجر الصهيوني.
ومع تداخل المفاهيم واختلاط الأوراق صار الصهيوني العربي تيارا عريضا واضح المعالم، نعرفه في لحن القول حين يعبر عن كراهيته لفلسطين، ويستهين بقضية شعبها، ويقلل من قيمة المقاومة، ويشكك في رجالها وأهدافها، ويفرح لإخفاقاتها، ويصفق لجرائم الاحتلال ويروج لادعاءاته، ويضخم من قوة إسرائيل التي لا تقهر، ويبث روح الهزيمة والانكسار في المعسكر العربي والإسلامي.
وهذا التيار نفسه هو الذي يملأ الأرض اتهامات للإسلام والمسلمين بنشر التطرف والإرهاب في العالم، ويصم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والتراث الإسلامي كله بالرجعية والتخلف، وينال من الصحابة الأخيار والفاتحين العظام، ويهين علماء الأمة وسلفها الصالح، ويسخر من ثوابت الدين والأزهر الشريف، ويهاجم المناهج الدراسية الدينية بشكل دائم، ويدعو إلى حذف الآيات القرآنية والأحاديث النبوية منها، ويتماهي مع العلمانية والإبراهيمية وغيرها من الدعوات الضالة المضلة التي تظهر بين آن وآخر.
ويفاجئنا التيار المتصهين كل يوم بإطلالة غريبة، ووظيفة جديدة، ويحاصرنا بإلحاح مريب من زوايا عديدة، ليفرض علينا خطابه المرفوض والمكروه، ممولا ومدعوما بالمال والنفوذ، ومحاطا بالحماية الأجنبية التي توفر له سبل الثراء والانتشار، وصار يشكل خطرا مباشرا على وحدتنا الوطنية، ويهدد استقلالنا وأمننا القومي، بعد أن انخرط في تشجيع التبعية للمشروع التغريبي، وتحريف عقيدتنا الوطنية بادعاء أن إسرائيل ليست عدوا ولا تمثل خطرا علينا، وتسويق فكرة (العدو البديل) ليشغل الناس به عن عدونا الإستراتيجي.
ومنذ اللحظة الأولى لانطلاق طوفان الأقصى لم يخف هذا التيار المتصهين حنقه على المقاومة، ولم يعترف لها بأي فضل أو أي انتصار، في الوقت الذي كانت المظاهرات تخرج في إسرائيل منددة بحكومتها وجيشها، وتتحدث صحافتها بأعلى صوت عن الهزيمة التي منيت بها، ولم يستنكر جرائم الإبادة المنظمة التي يرتكبها الاحتلال في غزة، والتي أدانها العالم أجمع بما فيه طلبة الجامعات في الغرب المساند لإسرائيل، وإنما تبنى الخطاب الليكودي المتشدد، الذي يدين المقاومة ويدعي أنها هي التي جلبت الخراب على شعبها، وهذه مفارقة عجيبة، فلأول مرة في التاريخ لايدان الاحتلال، وتتهم المقاومة بالتآمر على شعبها الذي تدافع عنه وتحمل قضيته على عاتقها.
ومع استمرار حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل في غزة والضفة الغربية، واستهداف تجمعات المدنيين من النساء والأطفال والعجائز، وقصف المستشفيات والمساجد والكنائس والمدارس ومراكز الإيواء، وإطلاق الصواريخ على طواقم الإسعاف ورجال الإغائة والدفاع المدني، صار واضحا أن الذين يتغافلون عن هذه الجرائم ويتسابقون إلى لوم المقاومة إنما يحاولون التغطية على عجزهم المهين، وخذلانهم لإخوانهم في الدين والعروبة، وانحرافهم عن انتمائهم لأمتهم الواحدة.
إن صراع إسرائيل الحقيقي ليس مع حماس أو الجهاد، وإنما مع فلسطين وأهلها، ومع الأمة بأسرها، وهو صراع قديم لم يبدأ مع طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، فقبل الطوفان كان هناك حصار خانق على غزة عمره 17 سنة، وكان هناك 80 % من الشباب الفلسطيني المتعلم عاطلين عن العمل، وكانت تقاريرالأمم المتحدة تؤكد أنه بحلول عام 2022 لن تصبح غزة صالحة للحياة، حيث تنتشر فيها الأمراض، و 94% من مياهها غير صالحة للشرب، ولم يكن هناك أمل في تغيير الواقع، فقد أسقطت إسرائيل وأمريكا مبادرة السلام العربية، وكان احتلال الضفة وغزة والقدس يتعمق بالاستيطان، وبات اتفاق أوسلو في غياهب النسيان، ومع انتشار المستوطنات في أنحاء فلسطين لم يعد هناك أفق لدولة فلسطينية.
وبالتوازي مع حرب الإبادة في غزة تتعرض مدن الضفة ـ جنين وطولكرم ونابلس وغيرها ـ لتطهيرعرقي وهجمات يومية، وينفذ الاحتلال مخططا إجراميا لتدمير الحياة الاجتماعية والاقتصادية للفلسطينيين فيها، فهناك أكثر من ألف حاجز عسكري يمنع تنقلهم، وممنوع عليهم أن يصلوا إلى القدس، وعجزت السلطة عن دفع رواتب موظفيها لأن إسرائيل تحتجز أموالها (حوالي ملياري دولار)، ونتنياهو يقول لا لحماس ولا لفتح ولا لمنظمة التحرير، ولا لأي كيان وطني فلسطيني موحد.
ثم أضيف إلى ذلك التطبيع العربي الذي استخدمه الاحتلال لتصفية القضية الفلسطينية، وخرج نتنياهو في الأمم المتحدة في سبتمبر 2003 يعرض خريطة لإسرائيل تضم كل الضفة الغربية وغزة، ويتحدث عن الشرق الأوسط الجديد، الذي يريد أن يرسم معالمه بما يوافق أطماع إسرائيل.
