واقع الحياة أن ما انقضى لا يعود، وأن الإنسان ابن حاضره، قد يطل على ماضيه بعين الرضا أو بعين السخط أو بعيون المراجعة والاتعاظ واستقطار التجربة، ولكنه مشدود إلى المستقبل بما يحوطه من مجاهيل واحتمالات، وبما يتطلع إلى تحقيقه فيه من أمان وآمال.. قد تتكرر الأيام، وتتشابه الحوادث، ولكن اليوم ليس كالأمس، والغد يحمل غير ما شهده اليوم.. والإنسان نفسه وليد أطوار وأحوال، فكما أن الظروف متغيرة، فكذا أحوال الناس.. أنت اليوم غير ما كنته بالأمس، وسوف تكون غداً غير ما أنت عليه اليوم، ولذلك كانت العودة للزمن الماضى ليست مستحيلة فقط على ما ضاع أو فسد بين الأحباب، وإنما هى عصيّة على أى إنسان فى عموم الحياة، لأن استنطاق الماضى محال، والعيش فيه من رابع المستحيلات!
يتأرجح الفكر العربي هذه الأيام بين تيارَين فكريَّين متعارضَين، يهيب بنا أحدهما أن نعود إلى الماضي، حيث الجذور والأصول والبدايات الأولى بكل ما تحمله من قِيَم تراثية كان لها نتائجها المثمرة في الزمن الماضي متمثلًا في حضارةٍ شعتْ أضواؤها حقبة طويلة من الزمان. ويدعونا التيار الآخر لأن ننشد المستقبل ونتطلع إليه، وخاصةً في ظل التغيرات العالمية المتلاحقة والتحولات الشديدة الأهمية في تاريخ البشرية، ويتحمس كلا التيارَين تحمسًا شديدًا لوجهة نظره وحججه التي يسوقها، ولكن أين واقعنا الحاضر بين هذين التيارَين المتعارضَين؟ بمعنى آخر ما هو الموقف من الحاضر كنقطة انطلاق ومنعطف رئيسي إما للارتداد للخلف أو للتطلع إلى الأمام؟ وبمعنًى ثالث أكثر وضوحًا ما هو الدور الذي يقوم به الوعي التاريخي بالحاضر، والذي يتحدد وفقًا له موقفُنا من الماضي والمستقبل على السواء؟
يحاول هذا البحث تحسُّسَ الطريق للإجابة على هذه التساؤلات التي تدور حول ثلاثة محاور رئيسية هي الماضي والمستقبل والوعي التاريخي بهما، ولكن المحور الغائب الحاضر دومًا في هذا البحث هو الزمن الحاضر الذي هو نقطة الاتصال بين البعدَين الآخرَين للزمان، وهما الماضي والمستقبل. ولذلك لا بد أن تكون البداية هي مناقشة الحجة التي يستند إليها أصحابُ التيار الأول في دعوته للعودة إلى الجذور، أي العودة للعصور الذهبية الأولى لاستعادة لحظات زمنية بعينها، ومحاولة إحيائها في الزمن الحاضر، ومدى ما في هذه الحجة من وعي تاريخي بالماضي من ناحية، وبالحاضر من ناحية أخرى، وطرح الأسباب التاريخية الكامنة وراء هذا التفكير الذي يجتاح عالمَنا العربي هذه الأيام. ثم يعرض البحث لكيفية التوجه إلى المستقبل بوصفه الإمكانية الوحيدة للتغير الإيجابي لأي مجتمع من المجتمعات عندما يعي الحدود الفاصلة بين أبعاد الزمان المختلفة من ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل، أي عندما يعي جدلية الزمان والتاريخ، وعندما يفهم التاريخ من خلال فكرته عن الزمان، وكيف تنطوي رؤيته للعالم على رؤيته للزمان، ومن ثَم ينتهي البحث إلى إشكالية إغفال كلَا التيارَين السابقين للزمن الحاضر عندما قهره أصحابُ التيار الأول لحساب الزمن الماضي، وعندما تجاهلَه أصحابُ التيار الثاني لحساب المستقبل. ويختتم البحث بعرض نموذج للوعي التاريخي بزمن الماضي والمستقبل انطلاقًا من البعد الغائب في التيارَين السابقين ألا وهو الزمن الحاضر، متمثلًا هذا النموذج في عصر النهضة الأوروبية.
فى الحقيقة لن تمكننا هذه التجربة من السفر إلى الماضي أو إرسال رسائل إلى الماضي. وذلك لأسباب متعلقة بالديناميكيا الحرارية (thermodynamics) حيث لا يمكن إرسال إشارات للماضي، ولكن يُمكن فقط لحدث في الحاضر أن يؤثر على حدث قد تم في الماضي حيث ان التغير فى العشوائية بالنسبة للكون يجب ان يزداد ويستحيل ان يقل أبداً وهذا من القواعد الأصيلة فى الكون التى لا يمكن كسرها و نتيجة لذلك الزمن يتحرك دائما فى اتجاه واحد فقط وافتراض إمكانية إرسال إشارات للماضي يخالف المبادئ الاصيلة فى الديناميكا الحرارية باعتبار امكانية ان العشوائية يمكن ان تقل فى هذه الفرضية لتوضيح ذلك، اذا افترضنا ان جهاز ارسال أطلق مجموعة من الاشارات في الفضاء ستبدأ هذه الاشارات فى التشتت و تتوزع فى الكون كله من حجم اكبر لاكبر لاكبر وهكذا حتى تقل قوة تلك الإشارة وتتبدد فى النهاية. حسنا هل يمكن ان يحدث العكس؟ هل يمكن ان تتجمع تلك الاشارات وتتقارب أكثر وأكثر وتحدث العملية بطريقة معاكسة حتى ترجع الاشارة قوية ثم تعود مرة أخرى لنقطة الارسال الاصلية طبعا هذا مستحيل لان العشوائية تزداد فقط فى الكون، لِنحاول تبسيط الامر.
من المفهوم المستوحى من التجربة حيث يقوم المختبر باتخاذ قرار معين فى التجربة من حيث القياس او عدمه (من خلال اختياره لوضع التشغيل او الإطفاء) بحيث يؤثر هذا القرار على خصائص الجسيم الخاضع للتجربة او حتى جسيم آخر فى الماضي. ذلك يعنى ان القرار الذي يمكن اتخاذه فى الحاضر يؤثر فعليا في الماضي لمحاولة تفسير تلك الظاهرة نلجأ لمفهوم التأثير عن بعد (action-at-a-distance) وهو يعني أن الأجسام يمكن ان تؤثر على بعضها البعض حتى من مسافات متباعدة جدا وفى تأثير لحظي، مثال لذلك حالة التشابك الكمي، و ايضا لا توجد ميكانيكية معروفة حتى الآن لتفسر ذلك التأثير.
تعتبر معادلة شرودنجر حتى الآن هي إحدى أقوى المعادلات التى تمكننا مع التعامل مع العالم الكمي. وفي هذه التجربة يعتبر الراصد نفسه جزءاً من التجربة بحيث تدخله يغير فى نتائج هذه التجربة، وما زال العلماء حتى الآن يحاولون فك أسرار هذا العالم الغريب الذى دائما ما يقيس الاحتمالات وينسف مبدأ الحتمية، حيث يبدوا على الأقل في نظر عالم الرياضيات الشهير شرودنجر (مثال لذلك التجربة العقلية المسماة بقطة شرودنجر)عالم الكوانتم هو عبارة عن حالات كمومية متراكبة وعندما تحاول رصدها كانك تجبر الطبيعة على اختيار حالة معينة لتظهر لك سلوك معين كراصد.
في النهاية أنت نفسك تُعتبر جزءاً من التجربة بالنسبة لعالم الكم، تصرفك يغير في سلوك الجسيمات ليس في الحاضر فقط ولكن أيضاً في الماضي. فهل لعلم الكيمياء أيضاً علاقة بالكم؟ او هل يمكن استخدام نظرية الكم في تفسير ظواهر تخص عالم الكيمياء الذي يهتم دائما بنوع الروابط بين الذرات؟ هل تستطيع معادلة شرودنجر تقديم المساعدة لنا فى هذا المجال؟ لذلك فمحال أن يعيش الإنسان وهو ابن حاضره فى دنيا أسلافه مهما كانت جميلة أو مبهرة أو براقة.. ولا يعنى هذا أن الماضي خالٍ من القيمة، بل إنه لا غناء للحاضر عن استخلاص عبر الماضي ودروسه.. ولكن ديوان التاريخ ليس محض مشاهد وصور وأشكال، وإنما هو معانٍ وقيم.. وتكرار الصورة على ذات ما كانت عليه شكلاً فى زمانها، قد لا يحقق المعنى أو القيمة التى كانت تعطيها أو تعبر عنها فى أوانها.. ينطبق ذلك على كثير من الصور والمشاهد التى عبرت فى وقتها عن الطهر والزهد والتعفف، ولم تعد فى الحاضر صالحة بمحض شكلها لتحقيق القيمة التى كانت تحققها، بل صارت لهذه القيم ذاتها صور أخرى تصادف أحوال زماننا. وهكذا يستبقى البشر بقية من خيوط ماضيهم رغم وهنها وعدم قدرتها على مسايرة حاضرهم ومستقبلهم.. وكلما زادت الأيام فى إظهار ضعفها زادوا هم فى التمسك والاحتفاء بها والحرص على إظهار الاعتزاز بها، ومهما ضاقوا بالامتثال لها!–
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا