في زمنٍ تُوزن فيه الكلمات بالحسابات والمخاوف، خرجت أم أحمد، السيدة البسيطة من قلب القرين بمحافظة الشرقية، تحمل وجعها ووجع أهل قريتها على لسانها، بلا تكلّف أو تصنّع.
لم تبحث عن عدسات الكاميرا، ولم ترتب كلماتها طمعًا في تصفيق، بل نطقت بالكلمة التي طال احتباسها في الصدور: كفى.
بثوبها الفلاحي البسيط، وقفت لتقول ما عجز عنه كثيرون، بنقاء يشبه رائحة الأرض بعد المطر، وبنبضٍ يشبه عروق الحقول العطشى.
في مؤتمرٍ رسمي حضره محافظ الشرقية، عجز كثيرون من الرجال عن البوح بالحقيقة المُرّة حول معاناة قريتهم، التي غرقت منازلها بطفح الصرف الصحي.
وحين خنق الصمت القاعة، وقفت أم أحمد ــ ابنة البلد ــ بكل تلقائية، وكأنها تدافع أمام محكمة العدل الدولية، لتلقن المحافظ درسًا عن معنى “الحياة الكريمة”.
بلا أقنعة مزيفة، ومن دون خطابات منمقة، دافعت بفطرتها الخالصة عن طبقةٍ مهمشة من أبناء الشعب، أولئك الذين تُركوا لوعود براقة مع كل استحقاق انتخابي، ثم تلاشت تلك الوعود مع أول غياب عن الأضواء.
كانت صرختها درسًا في الشجاعة لمن نسي أن الكرامة تبدأ من تفاصيل صغيرة كالماء والطريق والخدمة.
لم تطلب أم أحمد أكثر من حقوق أولية: طريق ممهد، ماء نظيف، وخدمات تحترم آدمية الإنسان.
ولكنها، دون أن تدري، كانت تعبّر عن صرخة وطن بأكمله.
صرخت أم أحمد، فسقط القناع عن واقعٍ مرير:
أجهزة تنفيذية غائبة،
رقابة اختارت الصمت،
ومعاناة تحولت إلى مشاهد هامشية في نشرات الأخبار.
“الحق لا يموت، ولو طال عليه الصمت.”
بهذه الروح، نطقت كلماتها، كمن ينتزع صخرة من بين الضلوع.
منذ متى صار الدفاع عن أبسط الحقوق شجاعة؟
ومنذ متى أصبح الغضب من الإهمال مغامرة محفوفة بالمخاطر؟
في بلدٍ يعرف ناسه كيف يصبرون، ويزرعون الحياة رغم القحط، لا بد أن تأتي لحظة ينفجر فيها الصبر، وينطق الألم بلا وساطة ولا خوف.
لم تكن أم أحمد مجرد امرأة تشتكي، بل كانت مرآةً لكل غصةٍ صامتة، وأيقونةً لكل يدٍ تنتظر تحقيق أبسط الحقوق.
“من قلب القرين، صرخت الأرض بلسان أم أحمد.”
في مشهد سريع، لا نحتاج إلى بطل خارق أو مشهد مسرحي؛ كل ما نحتاجه هو مواطن صادق لا يعرف التزييف، يقول كلمة الحق أمام من لا يسمعون إلا صدى أصواتهم.
وفي خضم الضجيج، تذكرنا أم أحمد بأن: “ليس كل من صرخ أمام الكاميرا بطلاً، ولكن كل من صرخ بالحق في غياب الكاميرات وطنٌ يمشي على قدمين.”
ويبقى السؤال معلقًا في فضاء الصمت الرسمي:
هل يسمع الغائبون صرخة الأرض؟
وهل تتحرك الكراسي المثقلة بالجمود قبل أن تقتلعها الغضبة الصامتة؟
إن مشهد أم أحمد لا يجب أن يُختصر في لقطة عابرة أو “ترند” سريع، بل هو صك اتهام مفتوح ضد غياب العدالة، وضد كل من تناسى أن الكرامة تبدأ من الطريق والماء والخدمة.
ويبقى الختام:
حين تصرخ الأرض، لا يليق بنا إلا أن ننصت للنبض الحقيقي تحت التراب، حيث تختبئ الحقائق بعيدًا عن صخب الميكروفونات.
إن صرخة أم أحمد ليست مجرد صوت عابر، بل وثيقة إدانة مفتوحة في وجه الغياب، وجرس إنذار لمن ظنوا أن صبر الناس بلا نهاية.
فالأرض لا تخون، والأصوات الصادقة لا تموت، وإن طال غياب العدالة، فإن الغضب النبيل قادمٌ لا محالة.
وستظل كل صرخة حق، مهما خفت صداها، تحفر طريقها في جدار الصمت الثقيل.:!!
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب مصري ، وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية..،،
saadadham976@gmail.com