“تميزت الحضارة الإسلامية عن غيرها من الحضارات الأخرى في فعالية الأداء الطبي كأداء مؤسسي، يقوم على تقديم الرعاية الصحية، ومساعدة المرضى وعلاجهم، وتقديم الطعام لهم ومتابعتهم، وتقديم الكسوة والغذاء لهم. كذلك كانت للبيمارستانات أهمية تعليمية كبيرة إلى جانب أهميتها المهنية، فكانت مكانًا لتعلم فنون الطب إلى جانب ممارسته ” .تلك خلاصة كتاب (تاريخ البيمارستانات “المستشفيات” في الإسلام) لمؤلفه أستاذ الطب والعلامة الموسوعي أحمد عيسى بك الذي أصدره باللغتين العربية والفرنسية.
لفت نظري الى العلامة المصري أحمد عيسى بك المولود في مدينة رشيد عام 1876م، مقالة لخبير التراث الدكتور يسري عبد الغني على صفحته على الفيس بوك ينقل فيه تعليق الأستاذ الدكتورعبد الحليم منتصر (الباحث والعالم والمؤرخ العلمي ) حول الجهد الموسوعي للدكتور عيسي. مما دفعني للبحث عن سيرة عيسى العلمية والعملية لعلها تكون نموذجا يحتذي به الشباب .
وقد أدهشني فعلا عبقرية الرجل وما منحه الله من قدرة على الكتابة والتأليف في مجالات علمية متنوعة . وبصفته خريج مدرسة الطب ومتخصص في أمراض النساء والباطنة كان من الطبيعي ان يؤلف 6 كتب طبية هي : كتاب أمراض النساء ومعالجتها وصفا جراحة ، كتاب صحة المرأة في أدوار حياتها ، كتاب الاستدلال بأحوال البول عن المرض ، وموسوعة معجم الأطباء ، كتاب تاريخ البيمارستانات في الإسلام ، وكتاب آلات الطب والجراحة والكحالة عند العرب ، بالاضافى إلى رسالة مختصرة في مادئ علم التشريح.
ورغم براعته في مجال الطب دراسة وممارسة، الا ان الدكتور احمد عيسى بك عزف عن ممارسة المهنة وتفرغ للترجمة والتأليف ، ساعده على ذلك تمكنه من اللغات العربية والانجليزية والفرنسية بالاضافة الى اللغة اليونانية واللاتنية. فاثرى المكتبة العربية بنتاج علمي وأدبي وتاريخي متنوع ، في مقدمته ( معجم أسماء النباتات ) الذي يكشف أن المؤلف ضليع في اللغات والتاريخ والبحث العلمي الدقيق بتناول تاريخ النبات من الناحية الطبية. ويصف الدكتور عبد الحليم منتصر أهمية هذا المعجم قائلا :”إني كمختص في علم النبات ، أحني الرأس إجلالاً وإكبارًا لهذا الجهد الخارق الذي بذله الدكتور أحمد عيسى في وضع معجمه في أسماء النباتات ، حيث ذكر ألوف الأنواع النباتية مع ذكر فصائلها وأسمائها باللغة اللاتينية والعربية والأسماء المحلية في البلاد العربية وغيرها من بلاد العالم ، ثم بالإنجليزية والفرنسية”.
كما اثرى الدكتور احمد عيسى المكتبة العربية بسفر قيم اخر هو كتابه (المحكم في أصول الكلمات العامية) ، ويؤكد في مقدمته إن التحريف في اللغة العربية قديم ، وله أسباب بعضها في اللغة ، والبعض الآخر خارج اللغة ، الأولى مثل : تعدد اللهجات بتعدد القبائل واختلافها ، وخصائص اللغة نفسها ، واتساع اللغة ، والثانية مخالطة العرب لغيرهم من الأعاجم . وفي هذا الاطار يؤكد تمسكه بالعربية الفصحى في كتابه ( التهذيب في أصول التعريب ).
ثم نجد الدكتور احمد عيسى يبدع في مجال اخر بكتابيه : ألعاب الصبيان عند العرب، والغناء للاطفال عند العرب .
بهذا الانتاج العلمي الواسع والمتنوع والدقيق حصل الدكتور احمد عيسى بك على عضوية مجلس المجمع العلمي بدمشق، والمجلس الأعلى لدار الكتب المصرية، والأكاديمية الدولية لتاريخ العلوم بباريس . واستحق وصف الدكتور نظمي ابو العطا قائلا :” كان العلامة الدكتور أحمد عيسى بك رحمه الله موسوعة علمية تسير على قدمين، فقد كان طبيباً بارعاً ومصنفاً موسوعياً ألف في الطب واللغة والتاريخ والنبات والحيوان وعلم الاجتماع”.
رحم الله الدكتور احمد عيسى بك الذي توفى عام 1946 عن عمر يناهز 70 عاما وترك لنا سيرة حافلة بالاجتهاد وتراثا علميا نادرا يجب الاهتمام به .