ما زُلْزِلت مصرُ من كيدٍ أُريد بها
لكنها رقصت من عدلكم طرباً
في عهد كافور الإخشيديُ وفد المتنبي إلى مصر عندما أصابها زلزال مدمر، بهدف مواساة حاكم مصر والتخفيف عليه إضافة إلى الطمع في نيل عطاياه، وهذا هو ديدن بعض الشعراء، الذين اتخذوا من بلاط الحكام ميداناً، ولا يزالون يتنافسون فيه لتقديم أقوى وأكذب ما لديهم من شعر بهدف نيل الجزيل من العطايا والهدايا، التي تؤخذ من قوت الشعب والفقراء. لذا وقف المتنبي في بلاط سيف الدولة معبراً عن التنافس بين الشعراء حينما قال: ما زلزلت مصر لشر يراد بها بل رقصت من عدلكم طربا.
أينما التفت المرء سواء في وسائل الإعلام المقروء أو المسموع أو المشاهد يجد المتنبي حاضراً في المشهد يمدح ويثني على من يغدق عليه العطايا أو من يتوقع منه ذلك، حتى أن متنبيي هذا العصر كالمذياع يعملون على موجات عدة، وسرعان ما يتغيرون بتغير الأفراد، أو تغير القرارات، فحتى لو اتخذ المسؤول قرارين متناقضين في موضوع واحد لوجدت المتنبي الجديد يمدح القرار في صيغته الأولى ثم يمدح القرار في صيغته الثانية التي تلغي القرار الأول. المتنبي مستعد لتغيير العبارات فقط، وذلك لتغيير المعاني، التي يعتقد أنها تؤثر في الناس أو من يخاطبه وليصدقوه بما يقول، ولم يخطر بباله، أو ربما خطر لكنه لم يهتم، أن صورته عند الناس قد تغيرت حتى أصبحت كالحة إزاء قضية أو موضوع من المواضيع. متى كان الزلزال والبركان خيراً ونعمة.
عبر عصور البشرية وجد من يتخذون من صناعة الكلام المكتوب أو الشفهي مهنة وحرفة حتى إن كان الكلام كذباً وهراءً لا يمت للواقع بصلة، ولا ينسجم مع المنطق، ولا يخدم المصلحة العامة لا في الوقت الراهن ولا مستقبلاً، ومع ذلك يصر هؤلاء على هذا المنهج المدمر الذي يقود السفينة بكاملها إلى الغرق. الكلمة الحق سواء كانت مدحاً وثناءً أو نقداً وإبرازاً للإيجابيات والسلبيات هي ما يحمي المجتمعات أما من يقلب الحقائق ويصور الفقر غنىً ورفاهاً، ونقص الخدمات اكتمالاً لها، وعدم استتباب الأمن أمناً وطمأنينة، فهذا على شاكلة المتنبي حين صور الزلزال بالرقص والطرب والفرح تعبيراً عن تحقق العدل والقسط في الناس.
المتنبي المعاصر ليس له جنسية أو جنس، وليس له عمر معين، وليس محدداً في تخصص دون آخر، إذ قد يلبس لباس الدين، أو قد يدعي العلمانية، أو قد يكون ممن درس خارج بلاده، أو ممن حصل على أعلى الشهادات.