حدث فى عام ١٩٩٩ ان عرضت بعض دور السينما المصرية فيلم أمير مصر إخراج المخرج ستيفن سبيلبيرج (أمريكى الجنسية صهيونى الهوى) الذى سبق أنْ أخرج فيلم (قائمة شندلر) الذى روّج فيه لمبالغات الصهيونية الدينية عن أفران الغاز النازية. ورغم أنّ جرائم النازية ضد الشعب اليهودى حقيقة لا يمكن للعقل الحر ان ينكرها، إلاّ أنّ الفيلم تعمّد بأسلوب فنى مُبهر أنْ يجعل المـُشاهد يتعاطف مع اليهود الذين هاجروا من ألمانيا ومن كل أوروبا وساهموا فى احتلال فلسطين. مع الايحاء الفنى بأنّ حرائق هتلر ضد اليهود تعطى إسرائيل المُبرر لاستنفار موارد الشعب الألمانى فى شكل منح تكفيرًا عن جريمة لم يرتكبها أحفاد هتلر. ولكن أخطر ما فى الفيلم هو ان ينسى المُشاهد مأساة الشعب الفلسطينى. أما فيلم أمير مصر فهو مُعالجة سينمائية، كرتون مُبهر للاطفال وللكبار، لأكذوبة روّج لها بعض الكــُـتاب الصهاينة تقول إنّ النبى موسى تربى مع رمسيس الثانى على أنهما شقيقان، وعندما يكبران يعلم موسى أنه ليس ابن فرعون وإنما هو واحد من أبناء العبرانيين الذين يعملون فى بناء الأهرام والمعابد تحت سياط المصريين المُتوحشين. وركـّز الفيلم على أنّ موسى هو المصمم العبقرى لكل ما أبدعته الحضارة المصرية. ويضع فى إصبعه خاتم كبير مهندسي الدولة. مع تكرار لقصة خروج بنى إسرائيل من مصر كما وردت فى العهد القديم. وينتهى الفيلم بانتصار الخير، موسى ومن معه، على الشر فرعون والمصريين، وبعد خروج اليهود من مصر، والتأكيد على أنهم بناة الحضارة المصرية، فإنّ الفيلم ركــّز علي ما جاء فى التوراة عن العقاب الذى أنزله ربهم على المصريين، والمتمثل فى تحويل أرض مصر ونيلها إلى دم وبعوض إلخ. وبالتالى تكون رسالة الفيلم أنه: إذا كان اليهود هم الذين شيّدوا الحضارة المصرية، فإنّ مصر ملك لهم خاصة وأنّ إلههم دمّر مصر وقتل كل المصريين. ورغم أنّ الثقافة المصرية السائدة لم تهتم بالرد على تلك الفكرة الخبيثة التى حاول سبيلبيرج ترويجها. طالبًا جامعيًا في بريد الأهرام بعد مشاهدته الفيلم، رد عليه وتنم عن وعى قومى يفتقده كثيرون من كبار الكتاب المصريين والرسالة طويلة أقتبس منها، “إذا ربطنا بين فكرة الفيلم وبين الادعاءات المتكررة بأنّ اليهود هم الذين بنوا الأهرام، بل وبنوا حضارة مصر لوجدنا أنّ هناك يدًا خفية تغزل بمهارة شديدة خيوط مؤامرة لتهويد حضارة مصر، وإرجاع مجدنا وحضارتنا إلى اليهود. ومن خــُـبث من هم وراء هذا الفيلم أنه فيلم كرتون. فإذا كنتُ أنا الشاب ٢١ عاما قد انبهرتُ به، فماذا يفعل هذا الفيلم بالأطفال فى أنحاء العالم؟؟، بالقطع سينبهر الأطفال ويصدّقون ما ورد به على أنه حقيقة. ونجد أنفسنا بعد جيل أو اثنين قد أخذنا هذه الادعاءات على أنها مُسلمات لا تحتاج لجدال”. سبيلبيرج فى عام ١٩٩٩ كان يُـكمل نفس المُخطط عندما أخرج الأمريكى الصهيونى سيسل دى ميل فيلم الوصايا العشر عام ١٩٥٤ وهو تكرار لمزاعم اليهود عن الاضطهاد فى مصر. وهذا الفيلم بالذات يضع المزيد من الملح على جرح الوطن، فقد تم تصويره فى مصرعام ١٩٥٤ أى بعد ثورة يوليو وأنّ مجاميع الكومبارس كانت من جنود الجيش المصرى.
وإذا كان بعض المخرجين الأمريكان لهم ميول صهيونية، ويحرصون على إعادة انتاج ما جاء بالديانة العبرية (اليهودية والمسيحية والإسلام) عن (اضطهاد اليهود) فى مصر، ثم مزاعم الصهيونية الدينية التى ذهبتْ فى مغالاتها بأنّ اليهود هم بناة الحضارة المصرية، فلماذا فعل مثلهم مخرج مصرى وصفته الثقافة المصرية السائدة بالمخرج العبقرى، ذلك أنّ يوسف شاهين أخرج فيلمًا بعنوان (المُهاجر) وكتب على تتر النسخة العربية أنه لا علاقة له بالتوراة، بينما كتب على تتر النسخة الفرنسية أنه عن قصة النبى يوسف فى مصر. ولكنه وقع فى فخ خيانة الذكاء فقد تصوّر انه الوحيد الذى يُجيد اللغة الفرنسية فى مصر كلها. والأخطر فداحة أنه لم يكتف بأنْ مشى وراء سيسل دى ميل وقلــّده حرفيًا، إنما زايد عليه. إنّ رام بطل المهاجر يُمثل شخصية يوسف التراثى. والفيلم تكرار لمزاعم اليهود كما وردتْ فى الديانة العبرية ضد مصر، فالمصريون فى الفيلم وحوش، تــُـعبّر وجوههم عن القسوة وفى أيديهم السياط، والفرعون أبله. والفنان المصرى مصاب بداء اللواط وهى عادة عبرية ولم تعرفها الحضارة المصرية باعتراف علماء علم المصريات من بينهم على سبيل المثال العالم أدولف إرمان فى كتابه “ديانة مصر القديمة”، ومارسها العبريون باعتراف الديانة العبرية. وفى المقابل فإنّ رام النبى يوسف هو الذي علــّم جدودنا الزراعة. وركــّـز الفيلم على قطعة أرض عجز المصريون عن زراعتها. فإذا برام هو الذي يقود فريق العمل. وفى نهاية الفيلم تنجح خطته العبقرية وتتحول الصحراء الجرداء إلى جنة خضراء، فى اسقاط واضح على ما فعله الإسرائيليون فى سيناء بعد احتلالها عقب كارثة يونيو ١٩٦٧. وبالتالى فإنّ رسالة الفيلم هى: أنه لا مفر من الاستعانة بالخبرة الإسرائيلية ولا بأس بالعمالة المصرية. إنّ يوسف شاهين قد زايد على ما جاء فى التوراة وعلى ما جاء فى القرآن. إذْ لا يوجد أى ذكر فيهما على أنّ النبى يوسف علــّـم المصريين الزراعة. وإنما كان دوره فى هذيْن المصدريْن هو تخزين الغلال فقط لمواجهة سنوات القحط. ففى القرآن “قال اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم” يوسف. وفى شرحه لهذه الآية ذكر الطبري ((فى قوله (أى يوسف) اجعلنى على خزائن الأرض. قال على حفظ الطعام. إنى حفيظ عليم. فولاه الملك ذلك)).
سجلات التاريخ توقفنا على أنّ المصريين لم يعرفوا نظام تخزين الغلال من أقدم العصور فحسب، بل عرفوا أيضًا نظام تخزين المياه، والمثال الحى على ذلك فرعون الأسرة الثانية عشر أمنحتب الثالث وخزان المياه العظيم فى منخفض الفيوم. أما الحبوب- كالذرة والشعير- لا القمح وحده- فهذا ما كان المصريون يفعلونه منذ عهد المملكة القديمة)).
أما عالم المصريات الكبير أودلف إرمان فكتب ((فى نهاية الحصاد، كان مستخدمان من مستخدمى المزرعة هما (كاتب الصوامع) و(كيّال الغلال) يأتيان وبعد أنْ يؤدى كل منهما عمله، فيُكيّل الكيّال أكوام الغلال، ويقوم كاتب الصوامع بتسجيل ذلك، وكانت الغلال تؤخذ إلى الصوامع، وكانت الصوامع– على مر العصور- تـُبنى على نفس النسق)) وأضاف إرمان أنّ ((المصريين كانوا يزرعون الخضر. وقد ذكر العهد القديم على ألسنة الخارجين (من اليهود) من مصر عندما جاعوا فى الفقر وافتقدوا قدور اللحم والسمك وغيره مما كانوا يأكلونه من أرض مصر مجانــًا، وأنّ المصريين زرعوا مختلف الخضروات والقثاء والبصل والثوم والبطيخ)) وكان تعقيب مقار ((فالمصريون كما ترى لم يكونوا فى حاجة إلى عبد عبرانى من البدو الرحل الرعاة كيوسف ليعلمهم (حكمة) تخزين الغلال فى سنين الوفرة ليكون لهم احتياطى فى سنين الشح، وهم الذين أعطوا العالم أول حضارة عرفها التاريخ عندما تعاملوا فى وطن مستقر مع النيل، وعرفوا أهمية السياسة الزراعية وسياسات أخرى)). وإذا كان يوسف شاهين قلــّـد سيسل دى ميل فى فيلم (الوصايا العشر) ومشى وراءه وزايد عليه، فإنّ عالمة المصريات الفرنسية نوبلكور في كتابها عن (رمسيس الثانى) الذى طـُبع منه مليون نسخة بعد صدوره بأسابيع فى فرنسا وحدها كتبتْ ((عندما أرى أفلامًا مثل (الوصايا العشر) تـُصوّر المصريين وهم يدوسون فوق رقاب العبيد الساميين، أشعر بالغضب، فهذا كذب وافتراء)) وإذا كانت الثقافة المصرية السائدة هللتْ لفيلم (المهاجر) وكتب كثيرون مقالات (قصائد مديح ليس لها علاقة بلغة النقد السينمائى) عن المخرج (العبقرى) فإنّ بعض النقاد الذين يحترمون لغة العلم، كتبوا نقدًا يتسم بالموضوعية، ضد تخريجات يوسف شاهين، ومزايدته باسقاط فنى على أنّ (راعى الغنم) علــّم الزراع الزراعة، وعلى (الطغيان الفرعونى) الذى ينفيه علم المصريات إلخ.