لا شك في أن جائحة كورونا ألقت بظلالها وثقلها على مصر، شأنها شأن بقية دول العالم. لكن تأثير الوباء على بلدنا ربما يكون أشد وطأة من دول كثيرة حولنا، حباها الله الله بثروات طبيعية أو بترولية أتاحت لها رصيدا أكبر من الاحتياطيات المالية التي قد تساعدها على تجاوز تلك الأزمة كما أنها أقل كثافة سكانية منا. لكن في الوقت نفسه ابتُليت هذه الدول بنكبة انهيار الأسعار العالمية للبترول، الذي يمثل المصدر الرئيسي للدخل فيها، إن لم يكن المصدر الوحيد للدخل!
في الوقت نفسه يمكن النظر إلى التنوع الاقتصادي في مصر كميزة تتيح لها الحد من آثار الركود العالمي الناتج عن الوباء، ولعل القطاع الزراعي وصادراته يتيحان لنا قدرا ملموسا من التنفيس عن “الضائقة المالية” التي قد تواجهنا.
على جانب آخر، تمثل تحويلات المصريين بالخارج جانبا مهما من الدخل القومي المصري، ومصدرا لا بأس به من موارد النقد الأجنبي. ومن غير شك، فإن عمليات الإغلاق التي ترتبت على الوباء العالمي، وتوقف بعض الشركات عن العمل، إضافة إلى تخفيض رواتب وأجور العمالة في الدول التي يعمل بها المصريون، وإنهاء كثير من عقود العمل وعودة العديد منهم، كل ذلك أثر على موارد مصر من تحويلات النقد الأجنبي!
ومن نافلة القول، إن مصر يوجد بها أكبر عدد من السكان على مستوى العالم العربي، الأمر الذي يفرض ضغوطا كبيرة على الحكومة لتوفير متطلبات هذا العدد الهائل من البشر من مسكن ومأكل ومشرب وملبس وخدمات صحية ومواصلات وطرق وبنية تحتية وغيرها.
ويمثل التعداد السكاني الكبير مشكلة، خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار انخفاض مستوى التعليم بين نسبة لا بأس بها من السكان وارتفاع نسبة الأمية مع عدم توافر الكوادر المؤهلة لمزاولة العمل في الصناعات المتقدمة، التي يمكن أن تمثل قيمة مضافة لها وزنها، إن وجدت تلك الصناعات. ومع ذلك فمن الممكن تحقيق استفادة قصوى من زيادة عدد السكان ليشكلوا ثروة بشرية تفوق أي نوع آخر من الثروات، إذا أحسن تأهيلها صحيا وذهنيا وتعليميا وتوظيفها لتحقيق التقدم.
وإذا كانت السياحة تشكل قطاعا رئيسيًا من قطاعات الاقتصاد في مصر، فقد تأثرت هي الأخرى بشكل كبير، مع انتشار الجائحة، وتوقف حركة السفر على المستوى العالمي، ومحدودية التنقل داخليا. ولعل هذا القطاع كان الأكبر تأثرا، قياسا بقطاعات أخرى كتجارة التجزئة، على سبيل المثال لا الحصر. وهذا ألقي أيضا بظلاله على موارد البلاد من العملة الأجنبية، إضافة إلى تعطل أعداد كبيرة قد تصل إلى الملايين من العاملين في قطاع السياحة.
وللتدليل على مدى حساسية قطاع السياحة، أنه في حال نشوب حرب إقليمية، أو حدوث حالة من عدم الاستقرار في المنطقة، أو عند ظهور وباء، لا بد أن تتأثر حركة السياحة، كما هي الحال عند وقوع أعمال إرهابية. ومعلوم أن السائح يخرج من بلاده بحثا عن المتعة والهدوء والاستجمام والانطلاق، وبالتالي فهو يتوجه إلى المقاصد التي توفر له ما يبحث عنه وليس إلى الأماكن المحفوفة بالمخاطر.
ولا جدال في أن القطاعات الاقتصادية، في أي دولة، أشبه بسلسلة متصلة الحلقات، فإن تأثر أي حلقة، سلبا أو إيجابا، يؤثر في غيرها من الحلقات.
وغني عن القول إن أي اقتصاد لا يتضمن الصناعات الثقيلة، كصناعة المعدات وجرارات القطارات والطائرات وكذلك الصناعات الإلكترونية الحديثة والدقيقة، من السهل أن يكون عرضة للتأثر بأية هزة ولو طفيفة، خصوصا وان الأنشطة الخدمية كالسياحة والريع والسمسرة تمثل جانبا كبيرا من اقتصادنا، فضلا عن أن القطاع الزراعي يعد من القطاعات التقليدية غير ذات المردود المرتفع.
وإذا أضفنا لما سبق، التحديات الإقليمية التي تواجهنا سنجد أننا نمثل حالة شبه فريدة على مستوى العالم. إننا نواجه مشكلة مياه النيل المتوقع أن تترتب على إقامة سد النهضة الأثيوبي، وهي قضية وجود ومسألة حياة أو موت. وهناك الاضطرابات وحالة عدم الاستقرار في دول ومناطق الجوار، مثل ليبيا والسودان وغزة واليمن وغيرها، ناهيك عن الأعمال الإرهابية التي لا تقل خطورة عن انتشار الفيروس وتداعياته.
علاوة على ما سبق هناك الصراع على موارد الغاز في شرق البحر المتوسط، التي تضم حدودنا الاقتصادية ومطامع القوى الإقليمية فيها، مثل تركيا، فضلا عن الخلافات السياسية والصراعات بين دول المنطقة وبعضها البعض.
ويمكن القول بأن مدخل قناة السويس، يبدأ جنوبا عند مضيق باب المندب وليس عند مدينة السويس. من هنا فإن أي اضطرابات هناك يمكن أن تؤثر على الملاحة في القناة، وليس بخاف عنا ما يجري في الصومال وجيبوتي وإريتريا وخصوصا في اليمن التي تشهد صراعا إقليميا بالوكالة تشكل فيه إيران مصدرا للاضطراب وعدم الاستقرار.
وتشير الدراسات الجيولوجية إلى وجود مخزونات عالية للغاز الطبيعي تحت قاع البحر الأحمر. ويرى البعض أنه من الممكن أن يتحول حوض البحر الأحمر إلى منطقة تتجاوز في أهميتها حرية الملاحة العالمية فيه، وقد تنشأ عليه صراعات مستقبلية بسبب مصادر الطاقة أيضًا.
كل هذه الضغوط والصراعات، سواء أكانت لظروف داخلية أو خارجية، يضاف إليها وباء كورونا، تجعل مؤسسات صنع القرار في وضع لا تحسد عليه. كما تحتم علينا إجراء حسابات دقيقة ومتعمقة قبل كل خطوة تتخذها، لأن الأمور لا تحتمل المخاطرة أو المجازفة بأي قدر من الموارد، النادرة نسبيا، خصوصا في ظل الأوضاع الاقتصادية الداخلية الغنية عن التعريف.
علاوة على ما سبق فإن المعركة الشرسة والمستمرة ضد الإرهاب تستنزف الكثير من الموارد البشرية التي تمثل خيرة أبناء الوطن إضافة إلى تكلفتها الاقتصادية والعسكرية الباهظة، فضلا عن مخاطر الأوضاع الإقليمية المحيطة بنا من كل اتجاه. ولعل المخاطر الإقليمية كانت وراء جهود التحديث العسكري المتمثلة في شراء طائرات وسفن وغواصات قتالية جديدة لتعزيز القوة الجوية والبحرية، وتطوير قواعد عسكرية جديدة كما هي الحال مع قاعدة برنيس في البحر الأحمر وغيرها.
من هنا، يمكن القول بأن جائحة كورونا ألقت بأعباء ثقيلة، على الدولة المثقلة بالأعباء من الأساس، وفرضت تحديات لم تكن في الحسبان، وعلينا جميعا أن نكون على مستوى التحدي وأن نتحلى بالمسؤولية الوطنية في هذه الظروف الضاغطة.
ومهما حدث من أزمات أو جوائح، فلا غنى لأي مجتمع أو اقتصاد، أو عمل، عن الأدوات والمعدات الثقيلة والقطارات والروافع الضخمة والآلات والأجهزة الإلكترونية الدقيقة، لذا فلا بد من المبادرة بخوض معركة التصنيع المحلي لها. ولا بد من قبول ما قد يواجهنا في تلك المعركة من ضغوط قد تمارسها علينا قوى اقتصادية أو سياسية أو صناعية خارجية، فالخسارة من قبول التحدي لا تساوي شيئا أمام “الخسارة الدائمة” الناتجة عن عدم الإقدام على اقتحام معركة التصنيع المحلي والتقليل، إلى أقصى قدر ممكن، من الاعتماد على استيراد مثل تلك المنتجات، علاوة على السعي لتصديرها. وفي اعتقادي أن الهيئة العربية للتصنيع يمكنها خوض تلك المعركة ببسالة وقوة، فلا سبيل أمامنا غير أن نقبل التحدي، الذي لا يقل أهمية عن تحدي مشكلة سد النهضة ولا تحدي القضاء على آفة الإرهاب، وإلا فسنظل نراوح مكاننا دون ان نتقدم خطوة واحدة!