الفترة الطويلة التي قضيتها معزولا بحكم الكورونا في منزلي دفعتني لتأمل أحوالنا وردود أفعالنا منذ أن درسنا التاريخ .. للأسف طوال قرون لم نلق بمسئولية أفعالنا السيئة علي أنفسنا .. دائما هناك شماعة أو مؤامرة.. باختصار هناك طرف ثالث .. والمصيبة أننا نغير مشاعرنا نحو هذا الآخر طبقا لظروفنا السياسية .. مع ناصر كان الاتحاد السوفيتي الملاك الحارس.. ومع السادات أصبح شيطانا وتحولت قلوبنا نحو العم سام ..
قبل هذا وذاك قاومنا الاحتلال البريطاني ثم هادناه .. وأذكر مقولة مصطفي النحاس رئيس وزراء الوفد عن معاهدة 1936 حيث قال جملته الشهرية “من أجل مصر وقعتها ومن أجلها ألغيها” .. وقال أمين عثمان وزير المالية أثناء حكم فاروق “إن العلاقة بين مصر وبريطانيا زواج كاثوليكي لا طلاق فيه” وذلك في فبراير 1940 وما تبع ذلك من اغتياله.. قبل بريطانيا وفرنسا وروسيا وأمريكا كرهنا الاستانة أو تركيا ومدحنا محمد علي وابنه إبراهيم باشا لأنه هزم الأتراك ودك حصون الباب العالي .. ثم احتلنا الانجليز بمساعدة الخديوي توفيق سليل الاسرة العلوية !!!..
تحالفت الحكومة مع بريطانيا في الحربين العالميتين الأولي والثانية، لكن المصريين تمنوا انتصار هتلر وأطلقوا عليه الحاج محمد هتلر..
هذا الكلام لا يصدق علي المصريين فقط ولكن علي العرب أجمعين من المحيط للخليج .. دائما هناك “الآخر” الشرير أو الطيب .. بوصلتنا متعلقة دائما بآخرين سواء محتلين أو حلفاء ، بل إننا حتي في ثقافتنا تشكل وعي الرعيل الأول من الاحتكاك بالحضارة الغربية مثل الحكيم وطه حسين والمنفلوطي والمازني، قبل أن يحمل لواء التجديد والمحلية نجيب محفوظ ومحمد عبدالحليم عبدالله وفتحي غانم ويوسف إدريس والخراط وغيرهم .. سؤالي هو لماذا هذا الارتباط القسري بالآخر ..
ألم يحن الوقت بعد لنفكر في “الذات” .. نستحضرها ونصقلها ونؤطرها فتكون لنا نبراسًا للمستقبل .. انغماسنا في التأثر بالآخر سلبا أو إيجابا أحدث أثرا عكسيا في ذواتنا .. لا شعوريا أصبحت “الدونية” ملمحا في الشخصية العربية .. ورغم كتاب العظيم جمال حمدان “شخصية مصر” .. إلا أنه اقتصر علي عبقرية المكان أو الخصائص الجغرافية المتميزة للوطن .. لكننا كمصريين لا نملك هذا التفرد .. نحن منكفئون علي أنفسنا نتشبه بالغرب في كل شيء .. في التعليم والمباني والأجازات والسفر والأثاث بل والطعام .. هناك دائما نظرة إعجاب ووله بأي “آخر” .. واحتقار أو “دونية” لأي محلي .. أنا أري التعلق بالآخر هو نكوص لا إرادي إلي الداخل .. هروب من واقع نرفضه وحياة لا ترضينا .. وتطلع فردي وجماعي للافضل..
أهم دروس الكورونا التي استفدناها أنه إذا كنت تريد الاقتداء بالآخر فتماثل معه في درجة الوعي .. لا تناقضه في أن ما أصاب العالم من الوباء والبلاء هو نتيجة للكفر والإلحاد والانحلال الأخلاقي .. قد يكون هذا صحيح في جزء منه .. لكن قبل أن نتهم الآجانب هل نهتم فعلا بالأديان السماوية ونطبق تعاليمها ام أننا صرنا كما قال الإمام محمد عبده عندما ذهب لأوروبا عام 1881 فقال رأيت إسلاما ولم أجد مسلمين .. الانشغال بالآخر سلبا أو إيجابا ينسينا ذاتنا وتطوير قدراتنا ووعينا .. ما تعلمته في زمن الكورونا أنه ينبغي علينا تحطيم كل الشماعات وضرورة أن تكون بوصلتنا موجهه نحو الانشغال بذواتنا ورفع مستوي وعينا .. لست مع صحافة وإعلام وسوشيال ميديا تنهال علينا ضربا بسياط جلد الذات وأننا السبب في كل ما يصيبنا من انتكاسات والحكومة بريئة تماما بعد أن فعلت ما عليها ..
حسنا الحكومات الغربية أيضا فعلت ما عليها وأكثر ولكنها تقبل النقد والتوجيه .. صحفهم مليئة باقتراحات توجه للمسئولين وضرورة معالجة الثغرات .. أما نحن فالإعلام يلقي المسئولية دائما علي الشعب .. وكأن الحكومة من “طينة” أخري غير الشعب .. مع أن اللوم يقع علي الطرفين .. الجميع يعلم أنه لو طبق حظر كامل من البداية لتحسنت الأمور .. لكننا طبقنا مبدأ أننا أفضل من غيرنا .. وفياتنا أقل .. لا نرفض مريضا .. هذا صحيح ونشكركم عليه .. ولكنها مسئوليتكم .. لا تتفضلوا علينا بحقوق أصيلة .. دعونا ننشغل حكومة وشعبا بمعضلاتنا نحن .. دعوا الآخر صديقا أو عدوا لشأنه .. ينبغي الاهتمام بالحد الأدني من احتياجات المواطنين .. التعليم والصحة والطعام والإنتاج .. للأسف شطبنا من قاموسنا هذه الضروريات .. حان وقت الانتقال من خانة “المفعول به” إلي خانة “الفاعل” .. للأسف نحن استهلاكيون لافكار ومنتجات الآخر .. وطبيعي أن يفكر المواطن في حجم الأعباء التي يقاسيها وأضيفت إليها مؤخرا رسوم مرور بالطرق للعائدين منازلهم.. ينبغي أن نعيد “فقه الأولويات” إلي مساره الطبيعي بحيث يبدأ وينتهي عند المواطن ..ثم ان الاقتداء بالاخر في عودة الحياة لطبيعتها ينبغي أن نقرنه بما فعلته الحكومة الفرنسية مثلا باعفاء المواطنيين من اداء الايجار وفواتير الغاز والكهرباء..
لا يعقل أن يخرج اعلامي قائلا “اللي مش عاجبه مستشفيات العزل ما يجيش .. أنا دفعت تكلفة عزل ابني” .. زادك الله من فضله .. المصريون فقراء ولا يتقاضون الملايين مثلكم .. هذه بلدنا ولا نسمح لأحد أن يخاطبنا بهذا التدني الذي سبقه إليه آخرون .. “من لا يعجبه البلد جواز سفره معاه يتفضل” .. مصر ليست عزبة لأحد .. ولسنا عبيد إحسانكم .. أي مليم في خزانة الدولة من المصريين (بعيدًا عن القروض) .. وزير المالية قالها بصراحة “80% من مواردنا ضرائب” .. علي الدولة أن تنبه رجالها في الإعلام والصحافة أننا أصحاب هذا البلد .. وإذا كانت هناك جهات تدفع مرتبات “البهوات” الإعلاميين فينبغي عليهم احترام “ذواتنا” وواقعنا الذي نعيشه ونتعايش معه صامدين حتي الآن .. ارحموا ترحموا .. وتوقفوا عن “شماعة الآخر ومقارنات ليست في صالحكم”..