وجدتها تجلس ساهمة في مصلى السيدات تستند في شرود على أحد أعمدة المصلى ؛ تنبهت لوجودي فافاقت كأنها عائدة من سفر بعيد ؛ لما أتممت صلاتي سألتها : أيسمحون لنا بالبقاء هنا إلى موعد العشاء؟ .. فأجابت : نعم نسمح .. فسألتها : من أنتِ؟ فأخبرتنى انها خادمة المسجد ثم استدارت تكتب شيئاً لم اتبينه ثم وضعت بعض الوريقات بجانبها .. فاستفسرت : أهذا بحث؟ أجابت بل قصة قصيرة . فقلت : أكاتبة أنتِ ؟ فقالت : أحاول أن أكون .. أدون بعضا من وقائع الحياة ، أستأذنتها ان اتصفح اذا لم تمانع .. فسمحت في أدب شديد و انشغلت عنى بصغيرتها الجميلة.
تناولت الوريقات وهالنى عنوان قصتها ” صندوق القمامة” . شدنى العنوان و زادنى دهشة وتوالت السطور تجذبنى وشعرت بالكلمات ساخنة متذمرة يتخللها شيء من المرارة فتقول : الخائن هو صندوق قمامة متحرك تنبعث رائحته الكريهة من شدة ذنوبه . فلا يدرك محتواه إلا صاحب المكان ؛ فربما أحكم إغلاقه فلا يشعر المحيطون به فينخدعون بعض الوقت ولكن من السفاهة أن نبكى على سرقته من جارة ملوثة . فربما أوجعنا أن يستخف بنا الآخرون و يتهمونا بالغفلة لأن أيديهم الملوثة طالت أشياء تخصنا ولكن أولاً و أخيراً لا ينقص قدرنا أن يتدنى الآخرون في سرقتنا ، فالعار على السارق لا على المسروق وخاصة إذا كان محل السرقة صندوق القمامة . أما عن الحية السوداء التى أخفت فحيحها ولم نتبين أنها من فصيلة الثعابين من شدة سوادها فغير مأسوف على رحيلها وهي تجر صندوق القمامة في الطرقات خلفها.
انتهت السطور الموقدة فوجدتنى أختلس النظر إليها وهي تكمل الكتابة بينما صغيرتها تضع رأسها في حجرها الدافئ تلتمس النعاس والأم الشابة تفرغ حملاً ثقيلاً في الوريقات وعيناها يكسوهما بعض الاحمرار فسألتها في حنو لأرفع عنها بعض ما هي فيه : أهى قصتك ؟ فأجابت في حياء : نعم عشت فصولها عشر سنوات من عمري ضاعت بين الشك واليقين . فاجده أحياناً صندوق قمامة فيتهمنى بأننى ظالمة وانه شيء مقدس فأطوف حوله فاستشعر الخيانة من جديد فأيقن بأنه الحق ، ثم همست كأنها تحدث نفسها الجريحة : غمرنى في غربة موحشة ، وأغدق علي الشعور القاتل بالوحدة ، ومنحنى أساور اليأس فكبلنى ، وزرع وروى أرضي و سمائى بالشك فأظلمت الدنيا من حولي.
ثم خفت صوتها فاردت أن أخفف عنها فأحتويت كفها البارد المرتعش بين كفيى أبثها شيئاً من الدفء والأمان مرددة: كثيرات يقابلن الصفعة بصفعات ولكن سبحانه وتعالى يقول ” إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير ” وعلى هذا فإن العبد قد يُكتب له عز الدهر وسعادة الأبد بموقف له في مواجهة الابتلاء بأن يعرض عن السفهاء المتدنية أخلاقهم فلا يخالطهم فيُزين له الشيطان رد الصفعة بصفعات ؛ فاستشعرتُ انشراح صدرها من كلماتى فأكملت : والله سيبدلك الله خيرا منه ويمنحك حياة أفضل شيديها برقيك ووفائك وحنانك المتدفق، إنها معطيات منحك الله إياها فلملمي أشياءك واجعلى منها صرحاً جديداً وأطيحي بالقديم البالى غير مأسوف عليه واسكبي خلفه المطر الغزير لتتفادي الغبار في سمائكِ وأجوائكِ .
أما عن الحية السوداء فستموت كمداً من العفن الذي أصابها في فضيلتها وعفتها المنحدرة المحتضرة ، فالدنيا مازالت بخير ولا يضيرنا أن البعض ينساق خلف شهواتهم المتدنية وليس من العدل او العقل ان تستمتع الثعابين السوداء في المياه الضحلة ونظل نحن نجتر صورتهم المقززة فتدنس صفو بحيرتنا الرقراقة ، فلنغلق هذه النافذة بصواعقها وبرقها ونفتح نافذة جديدة ولا نلتفت إلى اللحن الحزين الذي لاح خلسة في طريقنا ولنأخذ الاتجاه المعاكس دون سرعة جنونية لنتفادى التصادم ونتبين الطريق . وأمرتها في حنو أن تفتح نوافذ جديدة . فالشمس تشرق على النفوس الطيبة بنورها ودفئها فنتعافى متوكلين ونقفز فوق الأحداث.