(الجزء الثاني)
فبينما أسير في طريقي لسكن الطالبات رأيت أحد أفراد الأمن يجر صديقتي على الرصيف وبعض الفتيات اللواتي جمد الدم في عروقهن يبتعدن وينظرن من ثغرات النوافذ وبعض الشباب يقوم بتصوير المشهد دون دفاع وليس هذا بغريب فهؤلاء شباب الإنترنت أو الفيسبوك كما تسميهم أمي وكأنها تقصد بهذا النعت أن المروءة والنخوة انعدمت عندهم ولم يبق منها سوى بعض المقاطع التي تنشر بما يسمى بالهاشتاج على مواقع التواصل الإجتماعي لا أكثر ولا أقل، في البداية وقفت أرتجف خوفًا فأنا فتاة أتيت من قريتي الهادئة حتى أنني أميل دومًا للألوان الترابية فلم أختر يومًا لونًا صارخًا ولم أكن مهووسة يومًا بالجداريات الجريئة ولم تكن لي علاقة وثيقة بمواقع التواصل فقد كانت عائلتي ملتزمة وعرفها أن البنت مصيرها الزواج لا رؤية العالم من نوافذ الإنترنت ولا الإختلاط بالمجتمع المحيط، ولكن من هيبة الموقف رميت بتلك العاهات والتقاليد عرض الحائط وسألت شخصًا واقفًا لماذا يجرونها هكذا فرد عليّ أنها كانت تقوم برسم جرافيتي على جدران المبنى وكتبت جداريات معارضة للنظام وهذا الشارع يمر منه موكب وزير الداخلية المدعو “بحبيب العدلي” قلت له الرسم الجرافيتي فن وليس جريمة تستدعي ذلك، قال لي ستأتي الشرطة الآن وتجمع كل هؤلاء فاصعدي لبنايتك وكان المشهد الواقعي كالآتي(لو سمحت هم ليه بيسحلوها كده؟! وليه مفيش راجل بيدافع عنها؟!
قالي انت عارفة هي عملت اي يا آنسة!!، دي رسمت جرافيتي على حيطان المبنى، وانت شكلك مش عايشة في البلد ومتعرفيش ان حبيب العدلي بيعدي من هنا؟!اطلعي المبنى بتاعك ومتدخليش نفسك في سين وجيم؟!)
صعدت لبنايتي أبكي ودخلت غرفتي وانغمست في سريري بينما الفتيات يشاهدن المشهد وكأنه سينمائي ولم تهتز لإحداهن شعرة وقالت لي إحداهن بصوت انتزعت منه الرحمة واختلط بالخلاعة(قومي ارقصي معانا شكلك فلاحة ومشفتيش حاجات من دي قبل كدا هيهيهي…) وصوت قهقهاتها كاد يخنقني، فتركت الغرفة وخرجت جالسة على السلم، واتصلت أحكي لأبي ما حدث، فوجدته الأخير يقول لي (وطي صوتك الحيطان ليها ودان ومتدخليش نفسك في حاجة من الجامعة للسكن ومن السكن للجامعة…) وانصدمت لحظات في رد فعله ولم يكن حديثه مرضيًا بالنسبة لي حتى قال (ربنا ينتقم من الظلمة يا بنتي بس هنعمل إي؟!) وحينها تحسست في صوته حزنَا على ما حدث وفقدان أمل في التغيير وأن كل همه خوفه علىّ، ورجعت لغرفتي حينها ولم أنطق ببنت كلمة، حتى سمعت تلك الفتاة تحادث أحدًا من حمام الغرفة ظنًا منها أننا نائمون وتقول (شكلها لسه جديدة وهبلة ومش عارفة حاجة، أنا حاولت انكشها، دي تنفع أوي نضمها لينا الحركة محتاجة واحدة زي دي وبدل ما دول ياخدوها إحنا أولى بيها)،ظللت في سبات حتى استفقت على فتحها للباب فانغمست تحت لحافي حتى لا تشعر أني سمعتها، ولكن ثمة كوابيس تداهمني مين دول ومين دول وليه فيه دول ودول هو احنا مش واحد؟!
حتى استيقظت ولم أعي سوى على رواية أصدقائي أنني صرخت وقلت لماذا تجروها الرسم ليس جريمة ووجدت العرق يتصبب من جبيني، وسقتني إحداهن كوبًا من الماء، أما الذي لم أتوقعه خوف تلك الخليعة عليّ فقد ربتت على كتفي وقرأت لي بعض آيات من القرءان وهذا ذكرني بقول أحد اساتذتي أنه لا يجب أن تكون اللوحة كلها تدل على الشر لان كل منا به جانب من الخير ولأن الرسم يصف الواقع المندلع من رحم الصراع بين الشر والخير، ومن ذاك اليوم تحولت من كوني الفتاة الهادئة الطيبة إلى كوني أبحث عن الأنا ودخلت للمرة الأولى على المواقع الإخبارية وأتخبط بين هذا وذاك واشتري الكتب وصرت فتاة الألوان وفتاة الأوراق فكدت أعشق رائحة الأوراق التي أقرأ فيها حتى جاء ذاك اليوم من ديسمبر عام ٢٠١١ والحادثة المشؤومة التي قلبت القاهرة رأسًا على عقب والمعروفة (بست البنات) وهنا كان دورنا نحن الرسامين ودوري أنا كان… نستكمل غدًا