ذات عتاب..
-وما الجرم الذي ارتكبته في حقك، واستحق كل هذه اللعنة؟!..
-لا شيء..
فقط، تركت لي تلك الأوجاع الصغيرة بقدر اتساع مجرة..
تلك الحرقة بين الضلوع..
وبعض انكفاءات لا يكاد يستقيم منها قلبي..
ودرب تسيرني تملؤها الحفر، فتنكفيء هي الأخرى،تبكي المسير..
تتعثر بها أقدامي كلما تقدمت أو تراجعت..
كلما حثني احتراق الدواخل، أو أثناني بُعد الأمنيات..
وكأنما أراد صمتُك أن يشنقني على زوايا الصد..
-لا شيء أيضاً..
فقط، بعض ثورات صغيرة تكدست بمرافيء حنيني..
فأحرقت مقدرتي على التحمل..
أفقدتني صوابي..
-أتعرف؟!..
لتلك الدرجة التي تجعلك تنظر للأشياء ببلاهة سفيه..
وبلادة غبي..
وازدراء غني، ينظر من علٍ لفقير تعوزه الحياة بأسرها..
ثم يعجز عن مد يدِ عونه لمن استعانه لا لشح نفس، ولكن كيف لا يرى من يسأله أن الفاقة ألمت به هو الآخر، وأنه يعاني صقيع الدواخل أكثر ممن ألمت به رزية الظاهر فأعوزته..
-لا شيء أبدا سيدي..
فقط، محض نزف بسيط..
يميتني باليوم آلاف المرات..
يستنفد مدخراتي المحدودة من الأنفاس..
تلك التي كنت أتخذها زادا لسنين انتظار أخرى..
ولكن..
ما أبأسه حزني..
سبق انتظاري المزعوم إلى دفتر كنت أوزع في صفحاته كيف
أقيم طقوس ذلك الانتظار..
وكيف أشعل قناديل الليل من أطراف أصابعي؟!..
على شرف قدومك..
وأحتسي كئوس الملالة واحدا تلو آخر دون أن أضجر..
كيف وكيف وكيف لا تعرف كيف جاءت؟!..
وكيف رابعة تتقدم خطوة ثم تتأخر..
فمزق صفحاته وطمس معالم الخطو..
كان وحده من اقترف خطيئة السرقة لغير حاجة..
واحترف لعبة الموت كل يوم، وكأنما يشغفه أن ينتحل وظيفة ملك الموت كما يشغف الأطفال بالدمى..
فلم أعد أدري..
أينا المذنب إذن؟!..
أنا؟!..
ذلك الحزن؟!..
أم انتظار لم يقم حول نفسه ألف حصن حتى لا يطاله العطب؟!..
أم حلمي العاري حين سقط، وما زال يسأل عن الكيف..
فيمقته الجواب..
ويستغربه السبب..
خبرني يا دولة النقاء..
بأي حُجة أقنع طفلَ قلبي الذي ما برح يسألني عنك كل ذات نفس..
يميتني، حينما يخاطبني ببراءة الصغار:
مَنْ ذلك الآثم الذي سرق نبضي وتركني بلا حياة؟!..
وبلا موت أيضا..
كيف أخبره بأنني قاتله؟!..
كيف أخبره بأنني-دون رحمة-بعثرت نبضه سدى في انتظار ما لا يجيء، وكأنما أحرث أرض بور وأرعاها..
ثم لا تُحقٌُ حقَ الجَهدِ..
فلا تُخرج زرعا ولا تحتضن جذرا..
وكان لله ظني حينما أثِمتُ فظننت أن الموت تحمل بطنه،ثم تلد حياة ولو افتراضا..
وكأن كل ما كان مني محض تخرصات وتنبؤات مخبول..
كيف يتقبل فكرة أن الساعات كفرت هي الأخرى، ورجمت عقاربها لتقف مصلوبة على جدار الزمن، وقد عطلت مهامها..
أو أن الزمن توقف عمدا فاستغنى عن خدماتها الجليلة..
وما زلت أجرع كأس خيباتي..
حسرة تلو أخرى..
أمس..اليوم
وغدا..
على تلك الأريكة هناك..
سأظل مصلوبا بقدر ألف شهقة..
كما كنت أعدها لسنوات طويلة خلت..
أنتظر أن ينبت حلم من ثرى لهفة..
على ذلك الرصيف العابس مثل وجهي، الوحيد مثل قلبي، البائس مثل أمنياتي..
سأقضي الليل برفقته..
نتسكع سويا حتى يدركنا النصب..
ثم يضاجع كل منا الآخر بعد عناق طويل..
نرتقب بزوغ الفجر بغتة من فجاج عينيك..
بعد ليلة أشد وطأة من صبر الثقلين..
ليعيدني إلى ذاتي..
يمنحني اسما وهوية..
وجها..
وطنا..
وعاصمة لخيباتي..
وملامح قصة لم تكتمل أبدا..
-هنا..
-نعم..
-هنا على شاطيء ذلك البحر ..
سأنتظر آخر نوبات المد، أخاطب صمت الليل، جنون الموج وعمق الألم..
أبعثرني..
ألملمني..
أحترق ببطيء..
وأنا أبحث عن جواب واحد لآلاف الأسئلة التي تفجر رأسي كالقنابل..
فيسكت المسئول..
يضيع السؤال وسط الزحام..
ويتوه الجواب في آنية الصخب..
أيهم رأى الغياب الآثم حينما حملك إلى الضفة الأخرى؟!..
وعلى متن أي كذبة أخذك؟!..
وهل سيعود يوما من استهواه الرحيل؟!..
أم تبقى تلك الأحلام ممنوعة من الصرف؟!..
ويبقى ذلك المذنب بداخلي يحمل وزر خطاياه..
لسنوات أُخرَ..
حيوات أخر..
أو ربما..
عوالم أخرى، ما زالت محجوبة عن جهل إدراكي..
أيا حضرة المتأفف..
رفع القلم..
وجفت الصحيفة..
لكن عذرا..
هلا أخبرتني الآن؟!..
كيف أوقف كل هذا النزف وأستريح؟!..
النص تحت مقصلة النقد..
بقلمي العابث..