إن قوة المؤسسة والإعلامية بوسائلها المختلفة تكمن بمدى تأثيرها في نفوس المتلقين وفقا لما سنته الشريعة السماوية السمحاء، وهذا ما دفع الباحث إلى تسليط الأضواء على الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام العراقية تحديدا في نشر ثقافة التسامح واللاعنف بين أطياف وشرائح المجتمع كافة.
إن التاريخ الإنساني عبر الزمن حافل بالإبداعات المعرفية التي انعكست معطياتها على إبداعات الفكر الإنساني، وقد ساهمت تلك الابداعات بصورة جلية في إنتاج تحولات نوعية عن طريق التقدم والتنوع والتطور الحضاري والفكر الإنساني .
عصفت بالمجتمع العربي جملة من الأزمات والتحولات على مر تاريخه السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي … وما نتج عن هذه الأزمات من تداعيات أثرت سلبا على بنية المجتمع العربي عامة والشخصية العربية بشكل خاص ،
فأظهرت الأيديولوجيات المعادية هذا المجتمع وهذه الشخصية عبر وسائل الاعلام المختلفة أنها شخصية عصبية وانفعالية وذات مزاج حاد وغير مرنة والتي أصبحت لغزا للباحثين والمهتمين بدراسة الشخصية من أجل التعرف على ماهيتها التي تنطوي أصلا على طرفي نقيض بين الصلابة واللين .
إن دور المؤسسة الاعلامية في الواقع هو نشر الحقيقة دون تزييف ومن أبرز هذه الحقائق هو نشر ثقافة التسامح والحوار مع الآخر في حالة ظهور الأزمات والصراعات داخل المجتمع الواحد من التصدي لكل ما يمكن يؤدي بالمجتمع إلى حالة من التصدع والانحلال .
إن تكنولوجيا الاتصال ووسائل الإعلام في مجتمع اليوم ينظر إليها على أنها نهر عظيم يغذي الأرض التي ينساب عليها من خلال تنفيذها للرسالة الملقاة على عاتقها دون انحرف أو تحيز، وفي أغلب الأحيان يجد الإعلام أرضا خصبة وبيئة ملائمة تمكنه من تحقيق أهدافه
. ووفق آلية معينة تعمل وسائل الإعلام وبشكل خاص التلفزيون (شاغل الدنيا والعصر) كما يصفه أغلب المفكرين فهو يحدث تغييراً تراكمياً عبر الزمن إذ يؤدي فيما بعد إلى جعله حقيقة واقعة لابد من الاعتراف والتسليم بها. وصولاً إلى دور المؤسسة الإعلامية في نشر ثقافة التسامح .
وعبر وسائلها المتعددة كونها ذات تأثير فعال ومباشر على عموم البناء الاجتماعي في سياق عملية الاتصال والتواصل والتأثير والتأثر. وثقافة التسامح تعني ثقافة التعايش السلمي والتشارك المبنية على مبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية والسلام والتضامن، وهي ثقافة ترفض العنف وتعمل لتثبيت الوقاية من النزاعات في منابعها وحل المشكلات عن طريق الحوار والتضامن
والمفاهيم الأخرى لثقافة السلام يكون الهدف الأساس هو أن يعيش العالم بمختلف ثقافاته في جو من التسامح والوحدة، وبما أن السلام هو هدف الأديان السماوية وهو مفهوم لدى كل فرد من أفراد المجتمع، فلابد من المطالبة به ولابد من وجوده في المجتمع وإتاحة الفرصة لكل فرد أن يبذل مجهوداً من أجل السلام والتعايش السلمي، بما في ذلك تلك الإدارة الأهلية التي تدير شؤون المجتمع ولها القدرات في تنشيط فكر التربية والسلام في المجتمع والجوانب الحياتية المختلفة.
ومن ناحية ثالثة يعرف مفهوم اللاعنف اجتماعيا على أنه ضرب من ضروب الوعي الاجتماعي والثقافي الذي يجعل الفرد يعترف بحقه وحق الآخرين عليه. وهو استراتيجية اجتماعية سياسية في آن واحد تنبذ استخدام العنف من أجل تحقيق أهداف أو من أجل تحقيق تغيير سياسي
والتسامح هو كلمه متداولة تستخدم للإشارة إلى الممارسات الجماعية أو الفردية تقضي بنبذ التطرف أو ثقافة السلام هي الغاية التي ينبغي الوصول إليها بأن يكون السلام من الثقافة العامة للناس، وذلك لأن الثقافة هي أسلوب الحياة السائد، في أي مجتمع بشري وهي التي تميز المجتمع البشري عن المجتمعات الحيوانية. وأن ثقافة السلام مرتبطة إلى حد كبير بالتعرف على مصادر العنف وإزالة أسبابه فملكة الحوار والإصلاح لا يعنى فقط الديمقراطية والتعديلات لاحقة كل من يعتقد أو يتصرف بطريقة مخالفة قد لا يوافق عليها الآخر.
فالتصور الأول ينطلق من أن السلوك الأخلاقي لا يرمي إلى مجرد ضبط العلاقات الإنسانية بحسب مدونة إجرائية تضمن لهم العدل والتكافؤ، بل يهدف إلى غاية أسمى هي تحقيق رغبة الإنسان الطبيعية في العيش السعيد والحياة الفاضلة. ومن هنا القول بتماهي الخير (أي الأخلاق) والقيمة الأسمى (أي السعادة). فأرسطو يعرف الخير في كتابه (الأخلاق النيماخوية) بأنه ما يبحث عنه البشر، وما يشكل غاية قصوى لأفعال الناس: (أنه ما تنزع إليه الأشياء أجمعها). ولكن إذا كانت الخيرات متعددة، فما هو الخير الأسمى؟
يجيب أرسطو بالقول: إنه السعادة، لأنها الخير المطلق المطلوب لذاته، فهو الغاية القصوى للإنسان.
بيد أن السعادة ليست مفهوماً ذاتياً أو نفسياً، وليست رغبة أو منفعة، إنها حسب تعريف أرسطو (تحقيق الفضيلة)، ليس بمعنى التزام قاعدة قانونية أو ضوابط إجرائية، بل الانسجام مع الطبيعة الإنسانية ذاتها، أي السعي لتحقيق السلوك الذي يضمن اكتمال وتحقق الإنسان. وإذا كان للأخلاق مدونة سلوكية، إلا أنها ليست قانونية ضاغطة، فالأساس فيها هو المثل والغايات القصوى.
أما التصور الكانتي، فيستبدل أخلاق السعادة بأخلاق الواجب، والتصور الغائي للسلوك الأخلاقي بالتصور الإجرائي له، ومن ذلك يبلور الخلفية الفلسفية للتصورات القانونية الحديثة القائمة على مفهوم (استقلالية الذات) في مواجهة التصور الأنطولوجي للطبيعة الإنسانية (أي القول بطبيعة إنسانية مطلقة ومكتملة على السلوك الأخلاقي أن ينسجم معها. ففي كتابه (أسس متيافزيقا الأخلاق) يحدد الفعل الأخلاقي بأنه ما ينسجم مع (القانون الأخلاقي) أي (الواجب)، وهذا يعني ذلك أن مصدر الفعل الأخلاقي ليس مدى تلاؤمه مع غائياتنا أو سعادتنا ولا مصالحنا بل مع المقوم الكوني لإنسانيتنا كما يترجم في واجبات شاملة تتخذ شكل قوانين ملزمة موضوعية وغير ذاتية. وهكذا تفضي التصورات الكانتية إلى نتيجتين هامتين، لهما أثر حاسم في الفكر القانوني والسياسي الحديث والمعاصر:
أولاهما: إناطة الفاعلية الأخلاقية بالقوانين، التي أصبحت لها استقلاليتها عن دائرة الحكم، ومن هنا فكرة استقلالية السلطة القضائية في جهاز الدولة الحديثة.
فالقوانين من هذا المنظور هي مدونات إجرائية تعبر عن الجانب القيمي المتعلق بالمجال العام، إنها أكثر من تشريعات، بل تتسع لتشمل جوانب مختلفة ومتنوعة من الحياة الأخلاقية للأفراد.
ثانيهما: بناء الشرعية السياسية على المقوم الأخلاقي بمفهومه الحديث أي الحرية بصفتها إرادة ذاتية تنزع للكونية وذلك بإقامة مؤسسات كلية.
إن هذا التصور الأخلاقي بالمفهوم الحديث (التعبير عن الحرية إجرائيا في قوانين كلية) هو الأساس النظري والمرجعي لنظرية العقد الاجتماعي ومن الواضح أنه يرتكز على مصادر تناسب أخلاق الواجب مع التشريعات المدنية، ويتأسس على مرجعية العقل بصفته إطار الكونية الإنسانية.
فما أراده جون رولز هو إعادة الاعتبار للتصورات الإجرائية الشمولية للقيم من دون اللجوء إلى مقوماتها الميتافيزيقية. ولذا فإنه لا يقدم نظرية العدالة التوزيعية كفلسفة أخلاقية بل يعدها نظرية سياسية لا تطمح إلى بلورة أسس جوهرية للفعل الأخلاقي، وإنما تكتفي بالكشف عن المبادئ الناظمة للعدالة داخل مجتمع تعددي جيد التنظيم، تتصارع فيه وتتعايش مختلف تصورات الخير الجماعي
فرولز ينطلق في نظريته للعدالة من تعريف المجتمع بصفته (نسق التعاون الاجتماعي القائم على الإنصاف). ولفكرة التعاون ثلاث خصائص أساسية هي: أنه نمطٌ من الترابط تحكمه قواعد وإجراءات دقيقة يقبلها الجميع، يضمن الإنصاف بين المتشاركين بما يقوم عليه من تكافؤ في الحقوق والفوائد، يتضمن فكرة الفائدة العقلانية التي تختلف عن المنافع الفردية الضيقة.
ومن هنا يصبح هدف نظرية العدالة هو تحديد صيغ التعاون الاجتماعي الضامنة للإنصاف وذك بتعيين الحقوق والواجبات الأساسية التي تضعها المؤسسات السياسية والاجتماعية مع تحديد نمط وضوابط تقسيم المنافع المترتبة على التعاون الاجتماعي.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان