ان الحكومة «الإسرائيلية» الحالية بقيادة بنيامين نتنياهو بادرت قبل مدة على توسيع الإطار نفسه المعني بالحرب الالكترونية (حرب السايبر) في عملية تكاملية بين الجيش ومؤسسات الدولة المعنية، فأنشأت، وحدة خاصة مسؤولة عن تحسين الدفاعات الالكترونية «الإسرائيلية» وتنسيق وتطوير البرمجيات، وتعزيز العلاقات بين الدفاعات المجالية في الجيش، والشركات التكنولوجية والمؤسسات المعنية. وتعزيز قدراتها الدفاعية والهجومية في مجال الحرب الالكترونية.
فرئيس قيادة الحرب الالكترونية في الكيان الصهيوني «إسحاق بن إسرائيل» قال إن «الوضع الذي يكون فيه بوسع كل مجموعة قراصنة التسلل إلى مخزونات المعطيات لا يمكن أن يتوقف إلا إذا بُنيت منظومة دفاعية مناسبة، وهذا ما قررت حكومة إسرائيل فعله». مضيفاً القول بأن على الحكومة «الإسرائيلية» أيضا أن تستوعب بأنه في عصر التكنولوجيا الذي تُشكّل فيه كل منظومة دفاعية إمكانية كامنة للتسلح، فإن المخزون البيومتري هو ثغرة كبيرة يمكن التسلل منها.
ومع تشكيل تلك الهيئة فإن الحكومة «الإسرائيلية» قررت تشكيل طاقم من المختصين من مسؤولين من وزارتي المالية والقضاء وخبراء في التكنولوجيا لمواجهة حملات محتملة تُهاجم فيها «إسرائيل» من خلال الوسائل التقنية الحديثة، مع تزايد الحديث حول تعاظم الحرب الالكترونية التي تدور رحاها في أنحاء العالم بأقصى قوة، ما يعني أنّ الجبهة المدنية الصهيونية باتت عرضة للتضرر عبر شبكات الحواسب.
لقد انضم المجال الالكتروني على ما يبدو إلى جوار المجالات الأخرى ( البرية, والبحرية, والجوية, والفضائية ) للمشاركة في ميادين الحروب, حيث أنه من المتوقع أن تكون الحروب الالكترونية السمة الغالبة إن لم تكن الرئيسية للحروب المستقبلية في القرن 21. تكمن خطورة حروب الانترنت وشبكات الاتصالات في كون العالم أصبح يعتمد بفاعلية أكثر مما مضى على الفضاء الالكتروني, لاسيما في مجال البنى التحتية المعلوماتية العسكرية والمصرفية والحكومية, إضافة إلى المؤسسات والشركات العامة والخاصة. في لحظة نادرة من الصراحة العلنية، أوضح رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية “الاسرائيلية،” عاموس يادلين، طموحات وخطط جهازه لتسخير التقدم التقني والالكتروني في برامج عسكرية.
وقال في نهاية عام 2009 أمام “معهد دراسات الأمن الوطني،” أحد نخب مراكز الابحاث الصهيونية، “دعوني أوضح لكم أمام هذا المنبر المرموق أن مجال الحرب الإلكترونية يتطابق تماماً مع العقيدة الدفاعية لدولة اسرائيل .. وهو مجال لا نستطيع فيه الاعتماد على دعم خارجي او تقنية ليست من صنعنا”.
تشير البيانات الاقتصادية المتوفرة إلى قطاع مزدهر في مجال التقنيات الالكترونية “الاسرائيلية،” بلغت وارداتها عام 2015 وحده نحو 6 مليارات دولار، استقطبت نحو 20% من اليد العاملة في قطاع الاستثمارات الخاصة؛ فضلا عن عائدات التصدير التي تفوق احيانا صادرات “الاسلحة الاسرائيلية”.
جذور برنامج الأمن الإلكتروني، بكافة تلاوينه وتطبيقاته، تجدّ أرضيتها في قطاع المؤسسة العسكرية “الاسرائيلية،” كأكبر واضخم جهاز في الكيان يعززها الاستثمارات المستدامة والعالية في المجالات العسكرية المختلفة، لا سيما في قطاع الاستخبارات.
من المعلوم أيضاً أن عدداً لا بأس به ممن خدم في تلك الاجهزة استفاد من خبرته التقنية لتوظيفها في أعمال “تجارية” الطابع لخدمة اهداف واحتياجات المؤسسة العسكرية.
كما أن السياسة “الحكومية تنحاز لتقديم مختلف التسهيلات والاعفاءات الضريبية”.
للإضاءة على نمط العلاقة التبادلية علينا الإشارة إلى أبرز برامج “الأمن الالكتروني” الخاص بالشبكات، برنامج “شيك بوينت،” الذي أضحى البرنامج المفضل للحضور الإلكتروني الأميركي منذ عقد التسعينيات.
يترأس شركة “شيك بوينت” غيل شويد، بعد خروجه من الخدمة الفعلية لأهم الوحدات الالكترونية “السرية – وحدة 8200” في المؤسسة العسكرية “الاسرائيلية” حقق فيها منصبا “رفيعا بالغ السرية”.
ويستقطب شويد موظفيه من صفوف الاجهزة العسكرية والالكترونية، أحدهم الرئيس السابق لتلك الوحدة، نير ليمبيرت، وآخرين. في مطلع العام الجاري عقد مؤتمر في تل ابيب “سايبرتك 2016” استقطب الاف الكفاءات التقنية من الخارج، بحضور بنيامين نتنياهو، كان احد محاوره “الأمن الالكتروني للسيارات”.
يذكر أن تقنية الإلكترونيات الحديثة تدخل في مكونات صناعة السيارات مما يجعلها عرضة للقرصنة والتسبب في تعطيل الكوابح عن بعد وربما مقتل ركابها.
جاءت إشارة عابرة لإهتمام “اسرائيل” بتقنية الكترونيات السيارات في مقال نشر عام 2014 أوضح أن “القيادات العليا تولي اهتماما عالياً لتلك المسألة منذ عدة سنوات “تتعلق بتطبيقات مختلفة لقرصنة الاجهزة السيارة، بل ان “بعض المنظمات ودول اخرى باستطاعتها الحاق الضرر بأهداف وشخصيات محددة عبر شبكة الانترنت”.
واستفاض مصدر المقال بالإشارة “الإفتراضية” لرغبة جهاز استخباراتي معين التخلّص من شخصية ما في بلد اجنبي “عبر السيطرة على أجهزة التحكم الالكترونية في سيارة يقودها، عادة ما تكون حديثة العهد.
حينئذ ما عليك إلاّ إجراء اتصال عن بعد مع أجهزة الكمبيوتر بداخل السيارة، ومعرفة كيفية تتبع أي جهاز محمول في حوزة السائق، حتى لو كان خارج الخدمة أو معطلاً. باستطاعتك حينها متى ستحاول السيارة السير في منحدر منخفض والتحكم بإبطال عمل نظام الكوابح حالاً.
عندئذ تكون قد حكمت على نهاية كل من كان بداخل السيارة. “من نافل القول أن اعضاء تلك المؤسسة الالكترونية يستغلون ميزاتهم الاقتصادية إلى أبعد حد، للانخراط في صفقات “تجارية” مع نظم متعددة لا سيما في دول العالم النامي في منطقة آسيا الوسطى بشكل خاص، جورجيا واذربيجان مثالا،
بما يمكنها من الحصول على بيانات حصرية غير مقيدة لمعلومات تخص اتصالات مواطني تلك الدول ونشاطاتها المتعددة على شبكة الانترنت، دون رقيب. يشار إلى أن “بعض تلك الشركات الاسرائيلية” وجهت لها تهم مساعدة جهود وكالة الأمن الوطني الأميركية في التلصص والتجسس على المواطنين الأميركيين.
أن بوادر الحرب الالكترونية بدأت تنطلق في المنطقة، وتباشيرها بدت صارخة وجلية في إقدام الدولة العبرية الصهيونية على الاستعداد لها في مرحلة صعبة من تاريخها منذ قيامها على أنقاض الكيان الوطني والقومي للشعب العربي الفلسطيني عام 1948، وذلك بالرغم من اختلال ميزان القوي العسكري لصالحها.
ف”إسرائيل” التي تعيش قوة سطوتها العسكرية تعيش في الوقت نفسه قمة القلق والخوف من المراحل التالية في الصراع مع شعوب المنطقة. فالحرب الالكترونية قادمة لا محالة، وهي حرب العقول للعقول، فأين العرب منها على ضوء الاستعداد «الإسرائيلي».
ولكي ندرك أهمية هذه التقنيات، وأنها جزء من أدوات الصراع بين الدول، فنجد على سبيل المثال أن الصراع الأمريكي الصهيوني مثلاً مع إيران وبرنامجها النووي، لم يقتصر فقط على الضغوط السياسية والاقتصادية، أو التلويح بالحرب سيراً وراء التحريض الصهيوني لقيام بضربة عسكرية ضد طهران لإثنائها عن السير في طريق التكنولوجيا النووية، وإنما دخلت فيه الحرب الإلكترونية، المتواصلة بشكل ممنهج، حسب تقارير صحفية أمريكية وذلك منذ العام ،2010 ولعل أبرز نتائجها الهجمات الأمريكية الإسرائيلية، التي استهدفت تعطيل أجهزة الطرد المركزي في المنشآت النووية الإيرانية، وكذلك منشآت نفطية .
وعلى الجانب الآخر، تشتكي واشنطن وتل أبيب من هجمات إلكترونية تقف وراءها إيران تستهدف أنظمة معلوماتية، خاصة بها، من قبيل ما يتعلق بالبنتاغون والبحرية الأمريكية وشركات نفطية، أو وزارة الحرب الإسرائيلية وغيرها من المؤسسات الحيوية .
ولا يمكن تجاهل المعركة الحامية الوطيس بين بكين وواشنطن، أو بين الأخيرة وموسكو يمكن أن نعتبرها داخل نطاق الحرب الإلكترونية، من قبيل عمليات التجسس الإلكترونية، والتي تسبب توتراً من وقت لآخر في علاقات البلدين، لكن يتم فهمها في سياق صراع النفوذ، ورغبة الصين في أن تتجاوز الولايات المتحدة الأمريكية، في سباق الهيمنة العالمية وتصدر المرتبة الأولى في قيادة العالم، وفي إطار طموح موسكو لتصدر مكانتها السابقة .
وفي الأحداث الكبرى التي حدثت في السنوات الأخيرة في المنطقة العربية من قبيل حرب لبنان أو حرب غزة، تزايدت حدة الهجمات التي قام بها شباب عرب ضد مواقع إسرائيلية خاصة بالحكومة أو وزارة الحرب، كرد فعل على العدوان الصهيوني، وهي أمور تدخل في باب الشعور القومي والحماسة، وليست ممنهجة كتلك التي تقودها حكومات، لكنها جزء من آليات الحرب الإلكترونية .
ويجب الإشارة، إلى أن الحرب الإلكترونية، لا تتوقف عند عملية تأمين برامج تشغيل الأجهزة والمعدات العسكرية فقط، أو تعطيها وإفسادها، ولكنها تمتد كذلك إلى نظم المعلومات المختلفة، بما في ذلك قواعد البيانات وما يرتبط بالأسرار الاقتصادية، ومعلومات خاصة للشركات والبنوك .
ولا شك في أن معظم الدول، خصوصاً المتورطة في صراع إقليمي أو دولي، خصوصاً إيران والكيان الصهيوني، وبالطبع الدول الكبرى كأمريكا والصين وروسيا، لديها وحدة خاصة بالحرب الإلكترونية، وتنفق مليارات الدولارات كميزانية لإدارة هذه الحرب، أو الاستثمار في تطوير أدواتها، من زاوية رفع مستوى كفاءة الحماية الذاتية، أو القدرة على ردع الآخر، أو توجيه هجمات له تحقق المصالح الوطنية .
ولو لاحظنا سنجد، أن هذه الدول تحديداً، تواصل تطوير أنظمة التسلح التقليدية لديها من دبابات وطائرات وصواريخ وغواصات بصورة مستمرة، وفي الوقت ذاته تستثمر في الحرب الإلكترونية، وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه من قبل أن استحداث أدوات جديدة أو تقنيات حديثة لا يلغي ما سبقه، وأن ثمة تكاملاً بين الأنظمة الدفاعية المختلفة، وأن استخدام هذه التقنية أو تلك أو هذه الأدوات أو غيرها مرهون بالظرف الزمني أو المكاني، أو بالضرورة والمعطيات المتوافرة لدى صانع القرار التي تجعله يقرر ما هو الأنجع في هذه المرحلة، أو في هذا الموقف تحديداً . لكن من الواضح، أن الحرب الإلكترونية سيتزايد استخدامها في ضوء صراع النفوذ الواسع بين الأطراف الدولية والإقليمية وإعادة رسم خارطة العالم،
وتبدّل مواقع الأطراف المختلفة في معادلة القوة، أو إعادة تقييم موازين القوى، أو تعويض بعض الدول الاختلالات في إمكانات التسليح مع الأطراف الأخرى، وكذلك الاستفادة من ميزة صعوبة تحديد من يقف وراء الهجمات الإلكترونية، وإمكانية إنكار الدول المهاجمة ما قامت به، وعدم تحمل المسؤولية المباشرة، وتحقيق نتائج سريعة، وربما شمولية مجالات المواجهة على صعد مختلفة بما في ذلك اقتصادياً، وإمكانية تكبيد العدو خسائر باهظة التكلفة، في ظل ازدياد قيمة الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية، وارتفاع تكلفة وأهمية المعلومات .
ولعل تحمس بريطانيا لإنشاء وحدة خاصة للحرب الإلكترونية، كما استهللنا، وكذلك واقعة اغتيال رئيس مركز الحرب الإلكترونية الإيرانية قبل أيام، والتي تشير أصابع الاتهام إلى الكيان الصهيوني وواشنطن، يحمل دلالة على خطورة هذا السلاح في المواجهات بين الدول، وخطورة الخبراء والمسؤولين عن تلك الأدوات والتقنيات المثيرة للقلق التي تعد صداعاً في رأس الدول المتصارعة .
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان