إن وسائل الإعلام تقوم أحيانًا، وبدون قصد، بالترويج للعمليات الإرهابية وإعطائها حجمًا إعلاميًا لا تستحقها في ظل الأهداف التي يسعى العمل الإعلامي أو العمل الإرهابي لتحقيقه بما فيها من شهرة وسلطة ومال وتأثير فكري. إذ توجد ما يسمى بلعبة المصالح المشتركة بين الإرهابيين والإعلام؛ فالطرفان الإعلام والإرهابيون يستفيدان من الأعمال الإرهابية؛ فالإرهابيون يحصلون على دعاية مجانية لأعمالهم، والإعلام يستفيد ماليًا لأن التقارير التي تنشر في هذا المجال تزيد من جماهيرية الوسيلة الإعلامية،
ومن ثم تزداد قيمة الدعاية المنشورة فيها، الأمر الذي طالب فيه بعض السياسيين بحرمان الإرهابي من حرية الوصول الى منافذ الوسائل الإعلامية، لأن تغطية العمليات الإرهابية إعلاميًا، وإجراء مقابلات إعلامية مع الإرهابيين تعدّ جائزة أو مكافأة لهم على أفعالهم الإجرامية، إذ تتيح لهم المجال أن يخاطبوا الجمهور ويتحدثوا إليه عن الأسباب والدوافع التي دفعتهم لهذا الفعل، مما يتسبب ربما بحدوث نوع من التفهم لهذه الأسباب، وذلك على حساب الفعل الإجرامي نفسه، فقد ذكر الكثير من الأشخاص المنخرطين في الأعمال الإرهابية، أنهم تأثروا بما كانت تعرضه القنوات الفضائية، وبعض المواقع الإلكترونية في هذا المجال، فقرروا الالتحاق بالمنظمات التي تحرض على القيام بالتفجيرات والعمليات الانتحارية.
فقد أسفرت أحداث تلك الفترة عن ضمور بعض القوى وبروز قوى صغيرة، كما أفرزت تبعات تلك الأحداث عن ظهور شرق أوسط عليل يعاني من أسقام وعلل مستعصية كالفساد والفقر وارتفاع معدلات البطالة وغياب الشفافية وغيرها من الأمراض التي من شأنها أن تجعل أي منطقة تفقد أدنى مقومات الحياة والسعادة والأمل بمستقبل أفضل.
وعلى الرغم من دوره التاريخي واحتضانه لمعظم الحضارات الإنسانية ،إلا أن الشرق الأوسط وضعفه وتفككه أدى إلى وقوعه فريسة سهلة للتدخلات الأجنبية والإقليمية التي سرعان ما عاثت في أرضه فساداً وجعلته غنيمة سهلة لمصالحها، واتخذت منه مادة سهلة لكي تعيد صياغة خارطة جديدة تتناسب مع مصالح كل فئة منهم.
وبما أن مشروع الشرق الأوسط لا يزال مشروعاً حيوياً بالنسبة للمصالح الأمريكية، فهذا يعني بأن الإدارة الأمريكية لن تتخلى بسهولة عن حلمها في خلق منطقة محايدة لمصالحها في هذه المنطقة الحيوية من العالم. فالثقل الذي يتمتع به الشرق الأوسط ليس ثقلاً عادياً، بل ثقلاً يعود لعدة قرون ويعتمد على عوامل تاريخية وحضارية واقتصادية وجيوسياسية.
ولهذا فإن أي تغير يلحق به سوف لن يكون تغيراً عادياً، بل تغيراً مصيرياً بالنسبة لشعوب المنطقة وبالنسبة للعالم.
فالخارطة الجديدة التي سوف ينتج عنها مشروع الشرق الأوسط الجديد سوف تكون خارطة مصيرية بالنسبة لدول المنطقة لأنها سوف تعلن انتهاء دور دول تقليدية كبرى وبدء أدوار جديدة لدول أخرى.
وهذا التغير ليس فقط تغيراً جيوسياسياً، بل تغيراً سوف ينعكس على مكونات المجتمع وأطيافه لأنه سوف يحرك مكونات المجتمع من الأساس وينكئ كل الجروح.
وما الحروب الأهلية التي شهدتها وسوف تظل تشهدها المنطقة وتلك القلاقل التي تهدد الأمن والسلم الداخلي في دول الشرق الأوسط إلا علامات مباشرة على التدخل الأجنبي الذي يستهدف رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط.
إن خطة خلق شرق أوسط جديد لن تكون خطة عادية، بل سوف تقلب ميزان القوى في المنطقة وتقلب الأوضاع العامة رأساً على عقب. فليس من السهل على شعوب خلقت على يديها الحضارة أن تعود إلى نقطة الصفر من جديد، وحتى وإن بدا ذلك ممكناً. فقد علمنا التاريخ أن صفقات السياسة قد تنجح مع الأنظمة ولكن ليس مع الشعوب. تبدو إيران هي المستهدف الأكبر من التحركات الروسية الجديدة؛ فتعيين المبعوث الرئاسي يهدف إلى الضغط على الأسد وتقليل التأثير الإيراني في السياسة السورية، من خلال مراقبة السلوك اليومي للأسد وإبلاغ الكرملين بكل خطواته، ولن يكون بوتين مضطراً لإرسال ممثل عنه، وزير الدفاع أو الخارجية، لمراجعة الأسد وتعديل مواقفه. كما أن إيران ستكون المتضرّر الأول من توجه روسيا للسيطرة على الأصول الاقتصادية في سوريا، وخاصة الساحل السوري الذي بات يرتبط بالمشروع الإيراني في المنطقة، بالإضافة إلى تكثيف روسيا مساعيها لتعزيز سيطرتها في شمال شرقي سوريا، وهي المناطق التي ترغب إيران في تمرير طريقها إلى البحر المتوسط عبرها.
تتزامن هذه التطورات مع تكثيف إسرائيل ضرباتها للمواقع الإيرانية على كامل الأراضي السورية، وغض روسيا النظر عن التصرفات الإسرائيلية، الأمر الذي يوحي بوجود رابط بين التحركات الروسية في هذا التوقيت وإعلان إسرائيل أنها ستلاحق الأهداف الإيرانية في جميع الأراضي السورية، إلى حين إخراج إيران نهائياً منها.
ومن الواضح أن روسيا، التي تراقب الانكفاء الإيراني في سوريا، على علم بمدى الضعف الذي وصلت إليه قوّة إيران، وتحاول استثمار هذا الضعف عبر تعزيز نفوذها وتحصيل أكبر قدر من المكاسب، لإدراكها أن إيران لن تستطيع في هذه الظروف مقاومة التمدّد الروسي.
ومن جهة ثانية، تستهدف التطورات الروسية تركيا أيضاً، إذ تشكّل المناطق التي تسيطر عليها تركيا في سوريا أهميةً استراتيجية لروسيا، سواء لقربها من القواعد العسكرية في ريف اللاذقية وحماة، أو مناطق شرق الفرات التي تشرف على أهم المناطق الاقتصادية السورية من حيث الثروات الزراعية والنفطية.
على مدى أكثر من عقدين ظلت تلك الدول العربية الغنية تدفع الكثير في تمويل إعلام داخلي محدود التأثير، وتدفع ما هو أكثر في تمويل إعلام إقليمي تمتلكه دول أخرى بأجندة مصالح وأولويات قد تختلف أو تتعارض مع مصالحها ورؤاها.
ولما كان الوضع متفاقماً ولا يمكن السكوت عنه، فقد اتخذ بعض تلك الدول العربية الغنية الخطوة الضرورية والمنطقية؛ فبدأت في تطوير وسائل إعلامها المحلية، كما عملت على تطوير وسائل إعلام إقليمية أو دولية، تستهدف الناطقين بالعربية جميعهم في المنطقة وخارجها في مناطق العالم المختلفة.
وخلال فترة زمنية قصيرة بدا أن خريطة المنطقة تغيّرت من الناحية الإعلامية؛ لتتحول دول المركز إلى أطراف، فيما تتحول دول من الأطراف إلى مراكز. وبات الحديث عن تدفق إعلامي عربي – عربي مختلٍّ صالحاً لإعادة الإنتاج، خصوصاً فيما يتعلق بالأجندة الإخبارية، لكن هذه المرة جاء الاختلال لمصلحة الدول التي ظلت تعاني مشكلاته عقوداً، وفي غير صالح الدول التي لطالما تمتعت بالانفراد بالساحة وتصدُّر المشهد في غياب أي منافسة جادة من الآخرين.
والواقع أن هذا التطور، الذي يبدو أنه محل اتفاق كبير بين كثيرين من العاملين بالإعلام والمطّلعين على أحواله، يظل صالحاً للبناء عليه، ودافعاً قوياً نحو اجتراحه على صعيد آخر يتعلق بالتدفق الإخباري العربي – الدولي المختل أيضاً.
فما زلنا في العالم العربي نعاني مشكلات الخلل في التدفق الإخباري؛ إذ نعتمد على ما يَرد إلينا من مواد إخبارية من وسائل إعلام قادرة ونافذة في «الشمال»، تنقل لنا المعلومات والتحليلات والصور، وتنسب معها الصفات والأدوار، وتؤطِّر الأحداث، وتسلِّط الضوء على القضايا المهمة من وجهة نظرها، ثم ترسلها إلينا في «الجنوب»، أما نحن فلا نرسل سوى عُشر ما نستقبل من أخبار تقريباً. ويمكن تفسير علاقة التعايش بين الإعلام والإرهاب؛ من منطلق أن وسائل الإعلام ترى في هذه الحوادث المروّعة مادة خصبة وسبقً
ا إعلاميًا يثبت مكانة هذه الوسائل، ويدفعها إلى مصاف الوسائل التي يمكن الاعتماد عليها كمصدر للمعلومات، وكنوع من التسويق والترويج الإعلامي، تزامنًا مع رؤية مرتكبي الحوادث الإرهابية الذين يرون أن مجرد تسليط الضوء عليهم في وسائل الإعلام هو أكبر استثمار لشرعيتهم داخل الكيان الاجتماعي، كنوع من خلق مساحة غير شرعية داخل الكيان الشرعي. والدليل على ذلك، هو أن الأهداف المهمة للهجوم الإرهابي غالبًا ما تتجسد في كسب الدعاية لقضية معينة، وفي بعض الحالات تكون الدعاية هي الهدف الوحيد، حيث يستهدف القائمون بالعملية الإرهابية بالدرجة الأولى الدعاية، وليس حل المطالب السياسية المحددة.
ويستند بعض الباحثين بالتدليل على صحة الرؤية السابقة، بأن التغطية الإعلامية تعد أمرًا حاسمًا لنجاح تكتيكي لهجوم إرهابي، لدرجة أن نوعية التغطية الإعلامية للأحداث الإرهابية قد تكون غير جوهرية بالنسبة للإرهابين قدر اهتمامهم بحجم التغطية وكثافتها؛ بمعنى أن العملية الإرهابية قد تفشل في بعض الأحيان في تحقيق أهدافها التكتيكية، بينما تنجح في تحقيق أهدافها الدعائية، إلا أن هذا التفسير قد يكون أحادي البعد في بعض الأحيان، ويرجع ذلك بأننا لا يمكن فصل نوع التغطية الإعلامية عن ردة فعل الجمهور، كما لا ينبغي الافتراض بأن جميع الإرهابيين يسعون إلى الدعاية في المقام الأول على حساب أهدافهم التكتيكية أو السياسية الأخرى، بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن استيعاب العلاقة التكافلية بين وسائل الإعلام والإرهاب في ظل وجود الدولة.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان