فى صباح الأربعاء الماضى، التاسع من رمضان 1442 الموافق 21 من أبريل الجارى، فقدت الأمة الإسلامية واحدا من كبار مفكريها، هو العلامة الهندى الشيخ وحيد الدين خان صاحب كتاب ” الإسلام يتحدى “، ومؤسس المركز الإسلامى فى نيودلهى، الذى انتقل إلى جوار ربه عن عمر يناهز 96 عاما، بعد رحلة علمية ودعوية حافلة، قدم خلالها للإسلام وللبشرية العديد من الدراسات والأبحاث والمؤلفات القيمة التى ترجمت إلى كثير من اللغات العالمية، ولاقت اهتماما من العلماء والمفكرين .
والعلامة وحيد الدين خان مفكر عملاق، ولد فى أكتوبر 1925 ، وتعلم فى جامعة الإصلاح العربية الإسلامية، وتأثر كثيرا فى بداياته بأبى الأعلى المودودى وأبى الحسن الندوى، ثم خالفهما وانتقد أفكارهما، واتخذ موقفا علنيا صريحا ضد أيديولوجيات المودودى، وأقام دعوته على نبذ العنف ومهاجمة جماعات العنف المسلح، وتبنى المنهج العلمى فى الدعوة.
وتتميز كتابات العلامة خان بالأسلوب التحليلى الرصين، وتجمع بين البساطة والعمق لتناسب جمبع مستويات القراء، ويجمع فكره بين المنهج الإسلامى والمنهج العلمى والفلسفى، وبهذا المنهج كان يحاور الملحدين والعلمانيين فى كثير من كتبه، وهو أحد المفكرين المسلمين القلائل الذين جمعوا بين ثقافة العصر ونظرياته العلمية والفلسفية وبين ثقافة الإسلام الخالدة فى أدق خصائصها وأشمل معطياتها، وهى ميزة قلما وجدت بين مثقفى هذا العصر .
وقد عرفناه فى عالمنا العربى من خلال كتابه ” الإسلام يتحدى ” الذى ذاع صيته عندنا فى سبعينييات وثمانينات القرن الماضى، ولكن الكثير من كتب خان مازال مجهولا على صعيد الفكر المنهجى بسبب تأخر ترجمة مؤلفاته إلى اللغة العربية .
ومن أشهر مؤلفات العلامة خان المترجمة إلى العربية كتاب ” تجديد علوم الدين “، وكتاب ” البعث الإسلامى .. المنهج والشروط “، و ” الدين فى مواجهة العلم “، و” الإسلام والعصر الحديث “، و” حكمة الدين “، و ” الإسلام “، و” الإنسان القرآنى “، و” المسلمون بين الماضى والحاضر والمستقبل، و” خواطر وعبر”، و” التفسير السياسى للدين “، و” خطأ فى التفسير”، وفى هذين الكتابين الأخيرين يرد على الأفكار التى طرحها أبو الأعلى المودودى حول مفهوم الحاكمية والتجديد الدينى .
ومن مؤلفاته المهمة التى لم تترجم كتاب ” ظهور الإسلام “، و” الله أكبر “، و” المرأة بين الإسلام والمجتمع الغربى “، و” الرؤية الأخلاقية.. القواعد الإسلامية للنجاح فى الحياة “، و” النبى محمد .. مدخل ميسر لسيرته وحياته “، بالإضافة إلى تفسيره للقرآن الكريم ” تذكير القرآن “، إلى غير ذلك من المؤلفات التى تربو على خمسين كتابا، وآلاف المقالات المنشورة وغير المنشورة .
فى كتابه ” الإسلام يتحدى .. مدخل علمى إلى الإيمان ” الذى ترجمه إلى العربية ظفر الدين خان وراجعه وقدم له المرحوم الدكتور عبد الصبور شاهين يرد العلامة وحيد خان على مزاعم الملحدين بأن الكون أزلى الوجود ولا خالق له، مؤكدا أننا لايمكن أن نستدل بالطبيعة على ذاتها، وإنما نستدل بها على خالقها، ونستدل بدقة نظامها على حكمة هذا الخالق وقدرته وعلمه، ونستدل بالنبوات على الله، ونستدل بالإنسان على خالقه، فالوجود كله بمكوناته وبتفاصيله يدل على الواجد الخالق .
ويعد ” الإسلام يتحدى ” الصادر عام 1966 كتابا مهما فى العقيدة، يخاطب العقل والوجدان، ويؤسس الاقتناع العلمى لدى الشباب المسلم بصحة العقائد الدينية الكبرى، وتقوم فكرته على إثبات أحقية الدين أمام الفكر المادى الجديد عن طريق نفس الأدلة التى يسلكها الفكر الإلحادى فى نقد الدين، وهى الاستدلال بالنظريات العلمية الحديثة، فقد تناول فيه خان إثبات وجود الله عز وجل من خلال الطبيعة والفلك، ووجود الآخرة والحياة بعد الموت، وإثبات الرسالة بأدلة العقل قبل النقل، وقدم الأدلة على أن القرآن الكريم كتاب الله وكلماته إلى الناس، مع لمحات عن الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم، وعرض للكيفية التى عالج بها الدين مشكلات الحضارة، وبالذات فى مجال التشريع والعدل داخل المجتمعات، وشكل الحياة الإنسانية كما يتصورها الإسلام .
وفى كتاب ” البعث الإسلامى .. المنهج والشروط ” يناقش العلامة خان قضية التراجع الكبير للعرب والمسلمين بعد قرون طويلة من الحضارة التى شهد لها العالم بالريادة والتفوق فى مجالات عديدة، وبعد أن حكم المسلمون العالم لأكثر من ألف سنة، ولماذا أصبحوا اليوم فى مؤخرة الركب الحضارى، وصاروا عالة على الآخرين، وتابعين لغيرهم حتى فى الخصائص الثقافية التى هى لصيقة بالهوية لأى شعب من الشعوب، وتوصل إلى أن ضعف المسلمين هو المسئول عن فشلهم وسقوطهم فى عالم قائم على الصراع والمواجهة، ومن ثم فعليهم اليوم أن يراجعوا أنفسهم ويعترفوا بتقصيرهم دون إلقاء المسئولية على الغير، ودون التباكى والشكوى، ليبدأوا نهضتهم من جديد على أسس صحيحة .
وفى هذا الصدد يؤكد أن العالم يتغير كل يوم من حولنا، لكننا لم نستفد من هذه التغيرات كما استفادت اليابان ـ مثلا ــ وحققت إحياء حضاريا حقيقيا، بعد أن خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمرة مهزومة ومحتلة من قبل أمريكا، فقد اختارت طريقا عمليا لنهضتها، حيث تجاهلت وجود الاحتلال الأمريكى وركزت كل جهدها على بناء الوطن، وبدأت بالتعليم والاهتمام بالمدرس، فأعطت المدرسين فى المدن مرتبات الوزراء، ومنحتهم صلاحيات وكلاء النيابة، حتى صارت اليابان خلال عقدين فقط واحدة من أغنى وأقوى دول العالم، وأكثرها تقدما .
رحم الله العلامة الكبير وحيد الدين خان، أحد أهم أعلام المدرسة الهندية الإسلامية بالغة الثراء فى إنتاجها العلمى والفكرى، وعوض أمتنا عن فقدانه خيرا .