يحكى أن ليلى العامرية أرادت أن تهدى قيساً وجبة لذيذة طبختها خصيصا له، ولما كان اللقاء وجهاً لوجه فى ذلك الزمان عيباً بسبب العادات والتقاليد البدوية وليس بسبب تباعد اجتماعى مثلا لوجود كورونا أو ما شابه ذلك، فأرسلت له تلك الوجبة مع خادمة جديدة كانت قد استخدمتها حديثا، لم تكن تلك الخادمة تعرف شكل قيس ولا عنوان بيته بالضبط لكنها ذهبت على الوصف الذى وصفته لها سيدتها ليلى. ويبدو أن الخادمة أخطأت فى البيت فطرقت باب جار قيس وليس قيس. فوجئ الجار بمن تقف على الباب تسأله: هل أنت سيدى قيس بن الملوح حبيب سيدتى ليلى العامرية؟، سرح الرجل لحظة وخاطبته نفسه الأمارة بالسوء ومعدته الخالية من الطعام بأن ينتحل صفة قيس مستغلاً عدم معرفة الخادمة بشخصية قيس، ساعده على اتخاذ ذلك القرار تلك الروائح الطيبة من الطعام التى تفوح من هذه اللفة التى تحملها الخادمة فقال بكل تلقائية: نعم أنا قيس، فسلمته الخادمة اللفة وهى تقول:«ستى بتسلم عليك وبتقولك مطرح ما يسرى يمرى»، فتهللت أسارير الرجل وقال للخادمة: قولى لسيدتك يكفى قيساً أن الطعام من صنع يديكِ لكى يشبع منه الدهر كله، ولا تنسى ان تقبلى لى يديها ورجليها إن استطعت.
عادت الخادمة لتنقل لليلى ما قاله قيس المزيف ففرحت ليلى فرحاً شديداً وقررت أن ترسل لقيس كل يوم وجبة مماثلة محملة بكل ما لذ وطاب من ثريد ولحوم وطيور وفواكه وحلويات. وفى نفس الموعد تطير الخادمة للرجل الذى ادعى أنه قيس لتسلمه الوجبة ويرد عليها بكلمتين حلوين تنقلهم لسيدتها كنوع من أنواع الشحن المعنوى الذى يضمن وصول الوجبة الطازجة فى اليوم التالى فى نفس الموعد.
استمر الحال على ما هو عليه فترة طويلة حتى فوجئ الرجل فى يوم ما بالخادمة وبعد أن سلمته الوجبة الجديدة التى هى من صنع «إيدين ليلى» أعطته معها ساطوراً كبيراً وهى تقول له: سيدتى ليلى قد استبد بها الشوق وتريد منك ان تقطع لها بهذا الساطور جزءاً ولو ضئيلًا من جسدك يكون لديها تذكار منك تحتفظ به مدى الحياة!. وهنا اضطر الرجل للانسحاب من اللعبة فوراً واشار لها على باب الشقة المقابلة وقال لها: اعذرينى فأنا لست بقيس وإنما قيس هو الذى يسكن الشقة المقابلة. ولم يدع لها فرصة طبعا لتوبخه على كذبه عليها طيلة الفترة الماضية حيث دخل شقته وأغلق الباب فى وجهها.
خطرت لى هذه الحكاية وأنا أراقب تصرفاتنا جميعاً خلال شهر رمضان الذى يودعنا خلال ساعات قليلة حيث اكتشفت أن أغلبنا إلا من رحم ربى طبعاً يتعامل معه على أنه شهر الوجبات الطازجة والحلويات المتنوعة والمسلسلات الطويلة، فلما طلب منا أن نضحى ولو بشىء قليل من أجله وأن ندرك أنه شهر الزهد فى كل الماديات والطمع فى الروحانيات ظهرنا كلنا على حقيقتنا وقلنا له بصوت مسموع: نحن نحبك يا رمضان طالما كنت تأتى لنا بكل ما يملأ البطون وليس العقول والأرواح، اما حكاية الزهد فى الماديات أو التقلل منها فأنت قد طرقت على الباب الخطأ، لذا لا تصدق هؤلاء الذين يقولون أننا نتمنى أن تكون السنة كلها رمضان فهذا قولهم بأفواههم فقط بدليل أنه حتى من نجحوا فى التغلب على أنفسهم خلال رمضان يعود كثير منهم بعد رمضان لسابق سيرته البطالة وسلوكياته المعوجة ولو كان صادقا فى امنياته لكان على الأقل حاول أن يتعامل مع رمضان معاملة المحب الحقيقى وليس المزيف، أى ومع فارق التشبيه طبعا معاملة قيس الحقيقى لحبيبته ليلى التى هو مستعد ان يضحى بروحه من أجلها وليس قيس المزيف الذى بخل عليها بقطعة ولو صغيرة من جسده، والذى يشبه من وجهة نظرى مدرساً فى مدرسة ابتدائية سأله أحد تلاميذه عن معنى شهر رمضان فقال للتلاميذ: افتحوا الكراريس واكتبوا ورائى، ثم وقف إلى السبورة وكتب بالطبشور: رمضان يتلخص فى كلمتين هما (ص، ا، م) أى (صام)، (ف، ط، ر) أى (فطر)، الدرس انتهى لموا الكراريس، فرد عليه التلميذ قائلاً:«قصدك لموا الفوانيس يا أستاذ وإنت الصادق»!
Hisham.moubarak.63@gmail.com