ظهر الاقتصاد الأخضر استجابة لأزمات متعددة، ويهدف الى تحقيق تنمية اقتصادية عن طريق مشاريع صديقة للبيئة وباستخدام تكنولوجيات جديدة في مجال الطاقات المتجددة والنظيفة، ويدعو إلى خضرنة القطاعات القائمة وتغيير أنماط الاستهلاك غير المستدامة، مما يولد فرص عمل جديدة تعمل على الحد من الفقر، إلى جانب تقليل كثافة استخدام الطاقة واستهلاك الموارد وإنتاجها،
وفي هذا الاطار تسعى الدول الى وضع تصور لإطلاق اقتصاد مبني على استراتيجية الانتقال الى اقتصاد أخضر، مع الأخذ بعين الاعتبار أربعة محاور أساسية: أزمة الطاقة وارتفاع أسعار الوقود الأحفوري الذي أصبحت مخزوناته مهددة بالنضوب، والأزمة الاقتصادية وتوظيف الاستثمارات الخضراء كوسيلة للإنعاش الاقتصادي، وسياسات التخفيف من انبعاث غازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري، والقناعة القوية لبعض الدول بضرورة وضع نموذج جديد للتنمية المستدامة المرتكزة على تغيير سلوكيات المستهلك والنماذج التسويقية الحالية.
إن الناظر في هذا النمط الاقتصادي الآخذ في التنامي والانتشار يمكنه أن يكتشف، ومن دون كبير جهد، أنه لا يعمل فقط على تحسين الظروف والشروط البيئية والاقتصادية والاجتماعية الحالية، وإنما هو يضع نصب عينيه حق الأجيال المقبلة في الموارد الطبيعية، وفي الثروات والخيرات التي يتمتع بها هذا الكوكب.
يقودنا هذا الاقتصاد إلى أنواع مختلفة من المسؤولية؛ مثل: المسؤولية الاجتماعية، البيئية، والأخلاقية كذلك؛ فهو يحرص على الموارد الطبيعية الموجودة على كوكب الأرض، كما أنه يهدف للحفاظ على المجتمعات، ومحاولة تحسين الظروف الاجتماعية لأكبر قدر من الفئات والطوائف المجتمعية، بالإضافة إلى أنه ليس من الأخلاقي إنهاك كوكب الأرض، واستنزاف موارده، وإيصالنا إلى حافة الهاوية في خاتمة المطاف.
ولا تقتصر مزايا الاقتصاد الأخضر على تلك التي ذُكرت أعلاه، ولكنه يمكن أن يساعد في توفير الكثير من الفرص في مجالات جديدة، والقضاء على البطالة، وهو الأمر الذي ينصب في صميم المسؤولية الاجتماعية.
لا يرتبط الاقتصاد الأخضر بالتنمية المستدامة فحسب، بل هو مرتبط، وعلى نحو وثيق بمفهوم آخر مقارب لهذا المفهوم هو التنمية الخضراء؛ بما يعني أنه يعتمد، وبشكل أساسي، على احترام البيئة، والعمل على الترشيد، قدر الإمكان، في استهلاك مواردها.
إن هذا النمط الاقتصادي هو محاولة إعادة تصويب وموضعه الأنشطة الاقتصادية المختلفة لتكون أكثر مساندة للبيئة والتنمية الاجتماعية؛ بحيث تُمهّد الطريق للتنمية المستدامة.
ووفقًا لذلك، فإنه يمكن القول إن الاقتصاد الأخضر، الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن، لا يقود الخطى صوب التنمية المستدامة فحسب، وإنما يساهم، وبشكل أساسي، في رفاهية الإنسان وتحسين معيشته وشروط حياته.
فهو، من جهة، يقلل من نسب التلوث الموجودة في البيئة، والتي تتسبب فيها أنواع الاقتصادات الأخرى، ويعمل على خلق بيئات ومجتمعات أكثر نظافة وأقل تلوثًا، بل إنه يعمل، كذلك، على خلق مجتمعات أقل تعرضًا للمخاطر المختلفة والتي ليس أقلها ندرة الموارد الإيكولوجية/البيئية.
لابد من من الاهتمام بمفهوم الاقتصاد الاخضر لتخضير القطاع الزراعى , ودعم سبل المعيشة فى الريف ودمج سياسات الحد من الفقر فى استراتيجيات التنمية ,وتكيف تكنولوجيا الزراعة الجديدة للتخفيف من الاثار الناجمة عن تغير المناخ ,
وتعزيز شراكات التنمية , لمواجه التحديات البيئية المعاصرة كاتصحر , وازالة الغابات , والزحف العمرانى غير المستدام , وتاكل التربة , وفقدان التنوع البيولوجى , ويتطلب ذلك تكوين فهم مشترك للنمو الأخضر وتطوير نموذج نظرى بشان ذلك , فضلا عن تطوير مجموعة من المؤشرات التى تغطى الجوانب الاقتصادية و البيئية والرفاهية الاجتماعية , فتخضير قطاع الزراعة يهدف فى الأساس الى :
– استعادة وتعزيز خصوبة التربة عن طريق زيادة استخدام مدخلات طبيعية ومستدامة من المغذيات المنتجة , وتناوب المحاصيل المتنوعة , فضلا عن تكامل الثروة الحيوانية والمحاصيل.
– الحد من تلف وخسارة المواد الغذائية عبر التوسع في استخدام عمليات وتجهيزات تخزين ما بعد الحصاد .
– الحد من المبيدات الكيميائية ومبيدات الأعشاب من خلال تنفيذ الممارسات البيولوجية المتكاملة لإدارة الأعشاب الضارة والآفات , والزراعة العضوية , وإعادة التشجير لتنقية الهواء لكن أعتقد أن واحدة من أهم التوصيات كانت دعوة القطاع الخاص إلى تبني مبادرات تنموية في إطار المسؤولية الاجتماعية للشركات،
وتشجيع الأفراد على الإسهام في حماية البيئة عبر الحد من استخدام الأكياس البلاستيكية. فالمسؤولية الاجتماعية للشركات لم تعد عملا تطوعياً كما يظن البعض، بل هي واجب والتزام أخلاقي واجتماعي واقتصادي أمام المجتمع، ودعم القطاع الخاص لجهود حماية البيئة من شأنه أن يساعد في قطع شوط كبير في هذا المضمار، ويرفد الجهود الحكومية بمزيد من العمل الجاد.
إننا وفي ظل ما يُعانيه الكوكب من تغير مناخي بسبب الاحتباس الحراري الناتج عن الغازات الدفيئة بسبب سلوكيات الإنسان والنتائج السلبية عن النمو الصناعي في العالم، بتنا في أمس الحاجة الى تبني تطبيقات الاقتصاد الأخضر ودعم جهود إنشاء المشروعات الصديقة للبيئة، حتى نضمن حياة آمنة لأولادنا في المستقبل.
إذا يبقى مفهوم الاقتصاد الأخضر لبرنامج البيئة التابع للأمم المتحدة، من ناحية مفاهيمية، محدوداً جداً. ولكنه برنامج استثماري (شاملاً مقترحات مفيدة للظروف السياسية)- إذا ما تمّ تطبيقه- سيجعل إجمالي الدخل الوطني الكوني أكثر اخضراراً وأقل كربوناً وأكثر تفعيلاً للموارد الطبيعية، وهو، مع كل هذه النقائص، شيء مرحب به.
يعمل الاقتصاد الأخضر على تعزيز التكيّف مع المخاطر والضغوط البيئية، كما يُساعد على الحدّ من الفقر، فهو يزيد من إمكانية وصول المجتمعات إلى بيئة آمنة ونظيفة، كما أنّه يُعزّز الأمن البشري عن طريق الحدّ من النزاعات المتعلقة بالحصول على الأرض والغذاء والماء، وغيرها من الموارد الطبيعية، وبالتالي تحسين نوعية الموارد الطبيعية، ..
الاقتصاد الأخضر إلى أنه بمجرد التخلص من الشركات المعادية لهذا النمط الاقتصادي ونشر الصناعات النظيفة الصديقة للبيئة، وإحلال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والمركبات الكهربائية كجزء أصيل من حياتنا اليومية، فإن الاقتصاد العالمي سيختلف وسنتخلص من الاقتصاد البني التقليدي مرة وإلى الأبد وبلا عودة .. لكن المعطيات على الأرض لا تدعم ذلك”.
ويضيف “فالفريق الحكومي الدولي المعني بالتغيير الحراري يقول: يجب علينا خفض الانبعاثات الكربونية الراهنة إلى النصف بحلول عام 2030 لتكون لدينا فرصة للحد من ارتفاع درجة حرارة الكوكب، وتحقيق ذلك محل شك، فعدد سكان الكرة الأرضية في ازدياد ونصيب الفرد من الدخل العالمي ينمو بنحو 2 في المائة سنويا،
ما يعني مزيدا من الاستهلاك للموارد ومزيدا من الانبعاثات الكربونية، والطاقة المتجددة لا تمثل حاليا سوى 10 في المائة من الطاقة العالمية، وستصل إلى 30 في المائة فقط بحلول منتصف القرن ، ولإحداث تغير حقيقي في المناخ فالمطلوب أن تكون الطاقة المتجددة 60 في المائة من الطاقة العالمية عام 2050 وهذا مستبعد”.
ويؤكد أن الحديث عن النجاحات التي حققتها أوروبا في مجال الحد من الانبعاث الكربونية صحيح لكن السبب أن أوروبا نقلت مصانعها إلى آسيا ونقلت التلوث إلى هناك.
هناك مقاربتين في تعريف الاقتصاد الأخضر. الأولى تعتمد على الآثار، حيث تعتبر الأنشطة الإنتاجية والاقتصادية خضراء كلما كانت غير ملوثة للمناخ والمجال الجغرافي حولها، أو كانت تقتصد في استعمال الموارد الأولية والطاقية. أما المقاربة الثانية في تعريف الاقتصاد الأخضر فهي تعتمد على الأهداف، حيث يعتبر نشاط إنتاجي ما أخضرا كلما كان هدفه حماية البيئة.
إلا أن هذا التعريف يعتبر محدودا بالنظر إلى الأبعاد الشمولية التي صار الاقتصاد الأخضر يتخذها اليوم. فهو ليس مقاربة تقنية تعتمد على ضبط نسب التلوث والانبعاثات المضرة بالمناخ والتربة والماء، بل تتجاوزها إلى رؤية شاملة لأهداف الفاعلين الاقتصاديين وأدوارهم الاجتماعية ونظم الحكامة على المستوى الدولي.
وهنا تتداخل المفاهيم والإشكالات، حيث لا يمكن فصل الشق الاقتصادي والإنتاجي عن أبعاده الاجتماعية والمناخية، خاصة إذا وضعت هذه الإشكالية الكونية، إشكالية المناخ والبيئة، في إطار المفاوضات الدولية، التي يتمايز فيها طرفين أساسيين، الدول المتقدمة التي أنتجت التلوث البيئي بعد أن حققت نهضتها الصناعية والاقتصادية، والدول السائرة في طريق النمو والتي تعتبر ضحية للتلوث البيئي، حيث يطرح السؤال الكبير : من عليه اليوم أداء فاتورة التلوث والتحول إلى الاقتصاد الأخضر ؟
فالتحدي يبقى إذن في الموازنة بين هذه الإكراهات، على أن الهدف ليس هو معاقبة الدول المتقدمة بل في إقناعها بضرورة تحملها مسؤولية أكبر في حماية المناخ. كما أن الهدف هو ليس في إعطاء رخصة للدول النامية للإمعان في شتى الأنشطة الإنتاجية المضرة بالمناخ بالنظر إلى كونها لم تكن شريكة في جرائم البيئة التي عرفها العالم منذ النهضة الصناعية.
وهنا يمكن تلخيص التحديات المطروحة إلى مستويين. المستوى الأول يتعلق بكيفية خلق التوازن بين رغبة الدول المتقدمة في الحفاظ على رفاهيتها مع خفض مستوى بصمتها المناخية وبين تطلع الدول النامية إلى رفع رفاهيتها ولكن دون الرفع من مستوى بصمتها المناخية.
أما التحدي الثاني فهو يعود بنا إلى الهدف العام الذي يقود اليوم جهود حماية البيئة كما حدده تقرير اللجنة الدولية للبيئة والتنمية لسنة 1987 وهو “الاستجابة لحاجيات الحاضر، دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على الاستجابة لحاجياتهم”.
من الواضح إذن أن تحديات المناخ تتعلق بالحاضر والمستقبل من حيث ضرورة اتخاذ إجراءات للحد من التلوث البيئي والمناخي والتحول إلى الاقتصاد الأخضر في العالم من جهة، وضرورة تحمل تكلفة آثار هذه التحولات الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية والبيئية بالنسبة للدول النامية من جهة أخرى.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان