كعادتي في ليلة ختام المولد، الليلة الكبيرة .. أذهب للإستماع والاستمتاع بنفحات شيخي الروحية، أغسل نفسي من أدران الدنيا.. وأعود بزاد سحري يحلو لي العبرات على أبواب حروفه .
يعقد شيخي لواء مجلسه في نهاية الساحة على حافة الزحام، فالشيخ كثير الأضياف؛ أصحاب الطبائع العشقية لنور الحرف، المريدين، المحبين، المكلومين، ومن يبتغون الطعام والمأوى والنوم الآمن في روضته .
يقولون عنه:” فتى دولة الباطن “.. وذا لكرمه الواسع في المطعم والمشرب والأخلاق الحميدة، وإيجاد الأعذار لحماقات البشر، وقبل كل ذلك طيب كلامه الذي يُصلح به قلوب العباد ويحببهم في عشق ابتلاءات خالقهم عليهم .
ذات يوم سألته عما يقصدون بهذا الوصف ؟ فقال مستكثرًا ذلك على نفسه: فتى دولة الباطن!.. ياله من مقام رفيع يطير بجناحيه حول العرش العظيم، الفتوة لاتنعقد إلا لقطب الوقت، حامل لواء تدابير الكون، أما الباطن فهوماينكره العقل الواعي وهو محق في إنكاره، فلو رآه حقيقة لطار لبه ، فالعقل عقال، والباطن لاعقال له، لايقدر عليه إلا أكابر الفتيان.. ثم همس مبتسمًا وهو مطأطىء الرأس، مغمض العينين: أنا أقلهم شأنًا وأكثرهم ذنبًا، أرأيت سيدًا يصف عبده بأنه سيده إلا إذا كان مجنونًا؟ ثم انحدرت من عينيه دمعات وقال: لو يعلمون لقذفوني بالحجارة، سبحان ستار العيوب .
في الطريق إلى مجلس شيخي رأيت الساحة كعادتها تكتظ بالخلائق.. إلا أن سوادهم ــ وياللعجب ــ فرادى وكأنهم غرباء، شأنهم يشبه الحشر العظيم، رغم أنهم أبناء ساحة واحدة، تظلهم وتطعمهم وتكسوهم أشجارها المثمرة .
هذا يبكي، ذا يصرخ ، ذلك يتأمل دهشًا دون كلام وكأنه عاقل.. أحدهم ينظر إلى السماء ثم يشير إلى الخلق وكأنه يدلها عليهم؛ ثم يضحك كالمجنون ضارب كفًا بكف!
رأيت راجلًا، لا أدري إن كان رجلًا أم امرأة ؛ كثير الأسمال، طويل شعرالرأس إلى منتصف الظهر، ممتليء الجسم بعض الشيء في ليونة ظاهرة، يغطي الوجه إلا موضع العينين النجلاوين الكحلاوين؛ خشية أن تصعقه نجوم الليل، فإن القمر يغار منه ــ كما يروون عنه أو عنها ـــ ! دون أن يتكلم يدور بلافتة مكتوب فيها ” هنا ساحة المجانين.. من كان له عقل فلا يزاحمنا ويرحل “.
كانت سيدة معتدلة القوام، قوية البنيان، كبيرة السن، يبدو في وجهها بقايا جمال ساحر، لاترفع عينيها عنه، تضحك؛ فيظهر مازرعته من أسنان ذهبية، تقول: لاتصدقوه فهو لص قاتل وأنا شاهدة عليه؛ سرقني وقتلني مذ عدة أعوام بعدما أفسد دنياى !
شق درويش فقير الحال رث الثياب، جلبابه، حتى بدت سمرة جسمه النحيل وحلمتا ثدييه، بكى وهو يشير نحوه ويقول: كل شيء هالك، فلا تغتروا برجحان عقله وواسع عطفه. ثم جعل يهتف كأنه يحذره أو يعلن مفارقته والتحرر من قيده : لن تجرّني خلفك للهلاك بعد الساعة.. لن تجرّني خلفك للهلاك بعد الساعة .. لن تجرني ……..
فجأة سكتت كلماته الصارخة الرافضة، بغتة سقط على الأرض، انقطع عنه هواء الحياة.. ملأت وجهه ابتسامة فرحان، حتى ظن الغرباء بأنه لم يمت .
في زحام المولد رأيت رجلًا رغم وجاهة منظره، ووقار سمته وزيه الإفرنجي النظيف؛ كأنه قادم من حفل استقبال رئيس أو أمير، وقد جاء الساحة يوزع النفحات على الأفواه المفتوحة والبطون الجائعة.. رأيته يسأل الناس غير مبال بردود فعالهم : مسكين قلبي؛ مسكون بامرأة لاتحويها حروف اللغة البشرية.. فماذا يسميها حين يناديها ؟
لايعيره أحدٌ أدنى اهتمام.. ولايحفل هو بتجاهلهم وكأنه لم يسألهم .. يشير إلى أعلى، ربما نحو المئذنة السامقة أو السماء اللامعة .. يهتف بشوق لا يعرفه سواه: القلب يطلب حق اللجوء إليكِ، فلتفتحي بوابة الملكوت؟. ثم يمشي خطوات ويصرخ بوجع محموم: ياامرأة مستحيلة، بعدك كل النساء هوامش .
زعق درويش يراقب مشهده ويغطي وجهه بكفيه كمن يتقي لهيب نار: مدد ياأهل المداااااد.. أخرجوا هذا المجنون، ستحترق الساحة بزفرات قلبه المشتعل ؟.
أعرف جيدًا غرائب وعجائب كلماتهم ومستغلق أحوالهم لكثرة معايشتي لهم، فلا يعرف أسرار طريق الدراويش سواهم، كما يقولون : من ذاق عرف، ومن عرف اغترف. ويقولون: الطريق مثل الغابة، فيه الطيب كريح المسك الأبيض، والكريه كالجيفة، فيه الأفاعي والثعابين والثعالب الماكرة، فيه الذئاب في ثوب الحملان، وكذا الأسود والفهود والغزلان والحمرالوحشية والأولياء.. فلا يغرنك من يجيد مكر الثعلب أو وداعة الحمل. ويقولون: أصدق الأحوال ما وصفوا صاحبه بالجنون، وكان كذلك، لكنه لايدلهم عليه؛ خشية أن يتسلل النفاق لنفسه سربًا !
فيمامضى سألت أحدهم دهشًا: لما يلتذ أهل الطريق بوصف الجنون ويبجلونه في كلامهم، حتى ظننت بهم الجنون أو يتمنونه ؟!
ابتسم قائلًا بصوت مسموع : طوبى للمجانين.. اسمع ياهذا؟ ، المجنون من البشر هو من يتحلى بأرقى صفات المؤمنين؛ الصدق .. المجنون صادق لايكذب، لأن حاله لا يعرفه، ولايحتاج من الدنيا ومن فيها ومافيها مايعوزه إليه.. هل رأيت مجنونًا يكذب ؟ وذا مانهانى عنه مَن طاعته مِن طاعتِه، وعصيانَه عين عصيانِه، صلى اللـه عليه وسلم .
كنت كلما خالطت أحدهم، تذكرت كلمات الشيخ؛ المؤمن والمجنون لايكذبان . أذكر أنني قرأت مايكمل المشهد عند الشيخ الأكبر ابن العربي، في سفره الرابع من الفتوحات، إذ ينعتهم بعقلاء المجانين من أهل اللـه : أن جنونهم ماكان سببه فساد مزاج عن أمر كوني، من غذاء أو جوع أو غير ذلك. وإنما كان عن تجل إلهي لقلوبهم، وفجأة من فجآت الحق فَجَأتهم، فذهبت بعقولهم.. فهم أصحاب عقول بلا عقول! وعُرفوا في الظاهر، بالمجانين، أى المستورين عن تدبير عقولهم .
كنت لا أدهش لأحوال الدراويش مهما بلغت غرابتها، لكن أن يحدث معي ماحدث فتلك هي المرة الأولي؛ رأيت ساقي الماء الممزوج بالزهر ذو الطعم الطيب والرائحة العطرة.. كدأبه يحمل القربة على ظهره، وفي يده عدة أكواب معدنية لامعه، يملأها بالماء لمن يريد بالمجان، لايطلب أحدٌ منه ؛ فقط يمد يده ويأخذ مايشاء من أكواب يده.. لايفتح فمه إلا بقوله: صل على جد الحسين.. صل على المحبوب ؟ .
شدني إليه الحال لا العطش، سألته مماحكًا حتى يحدثني: اسمح لي بكوب من ماء ياعمنا فأنا عطشان ؟
لم ينظر لي، بل أحكم التفاف أصابعه بشدة على مقابض الأكواب المعدنية، تناول واحدة منها وأشار بها نحوي مبتسمًا، ظننته سيناولني إياها، فإذا به يفرغها في فمه ، ثم باغتني بإطلاق الماء في وجهى فأغرقه، وسال على رقبتي وملابسي .
ماعجبت له، هو أنني لم أفزع، لم أستنكر، بل وجدتني أنظر إليه وأبتسم!. وضع يده على رأسي وأنا مستسلم في لذة عجيبة لما يتمتم به من كلمات، وعيناه تتقلب في السماء.. مرر يده على تضاريس وجهى المبلل بماء قِربته المزهر، همس: ليس عطش المعدة.. الظمأ يشقق قلبك مثل الأرض الشراقي! ثم جمع قبضة يده ووكزني في صدري جهة القلب؛ فإذا برعدة ترجني مثل قارورة الدواء .. بعدها نشط رأسي وانتبه كمن عادت إليه الحياة، شعرت براحة عجيبة تسرى في عروقي، كمن يشرب الماء البارد في ظهيرة صيف .
قال وهو يودعني ليواصل سُقيا العطاشى: ألست مأمورًا بأن تدفع للأجير حقه قبل أن يجف عرقه؟ هززت رأسي بالموافقة .. قال آمرًا: أدخل يدك في جيبك هيا، فإن خلفي مهام جِسام ؟
بسرعة البرق ناولته ما وقع في يدي من نقود.. أخذها كمن ينتظرها بشوق .. نظر فإذا امرأة تتلكأ في تجوالها بالساحة، دس النقود في يدها وهمس لها : هدية مولانا..أسترى نفسك العارية فالقبح لايليق بها ؟. اندلقت المرأة على قدميه تقبلها وتردد: السماح ياأهل السماح؟ أشار لها أن تنصرف.
جعلت تبكي بشدة كمن فقد عزيز وهي تنظر نحو السماء وتقول: أشهدك يارب العالمين بتوبتي فطهرني .
فوق صخرة في جانب من الساحة تلاصق حائط المسجد، رأيت رجلًا يقف على أطراف أصابعه وكأنه يستعد للطيران، يناديه الناس ابن زياده، يحمل صورة ورقية لكلام مخطوط؛ داخل برواز أنيق ذات طلاء ذهبي.. كان الناس يتزاحمون عليه لمعرفة سر الكلمات ومن يقرأها يرجوه بأن يسمح له بتقبيل البرواز.
مشرق الوجه؛ لايكف عن الإبتسام وكأنه وُلد مبتسمًا، يشير إلى الكلام المخطوط ذاكرًا حادثة كتابته، وكيف حصل على صورته.. قال: هذا ماخطه سيدنا الإمام بيمينه، حين استغاثت به المرأة الصعيدية وابنتها، وكانتا تقصدان الزيارة في الليلة الختامية لمولد ولي النعم، ولم تجدا سوى سائق حافلة رحب بهما، وفي ليل الطريق عبث الشيطان في نزواته، فأرادهما عنوة، بكت المرأة متستغيثة بالإمام الحسين :” بقى يتعمل فينا كدا ياسيدنا وأنا جيالك وبنتي نزورك؟!” .. فجأة قطعت سيارة شرطة الطريق على سائق الشاحنه، ألقوا القبض عليه .
في مديرية أمن قنا حرر الضابط النوبجي المحضر بناء على طلب سعادة اللواء ذي الوجه المزهر والمشهد المهيب؛ قائد القوة التي أنقذت المرأة وابنتها وألقت القبض على السائق.
بعد إنصراف سعادة اللواء المهيب ومن معه بعد توقيعه على المحضر، وبصحبتهم المرأة وابنتها لتوصيلهما، ذهل الضابط النوبتجي، كأنما أصابه دوارشديد وهو يقرأ التوقيع :” الحسين بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب” .
قال ابن زياده وهو يبكي فرحًا: لازال دفتر الأحوال بتوقيع الإمام الحسين محفوظًا هناك لمن يرغب في رؤيته. أما فرحي العظيم هو الفوز بالسماح لي بتصوير محضر التوقيع الشريف لمولانا الإمام، وها هو أمامكم داخل البرواز الذهبي.. ثم بكى بلهفة مشتاق ، قال بصوت أسيان: ويعيبون علينا عشق آل البيت !
رفع البرواز إلى أعلى حتى آخر أطراف أنامله، وكأنه سيطير حقًا ، بدا المشهد وكأن البرواز هو الذي سيحمله مثل طائر عملاق ويرتفع.. كان الناس يذوبون هيامًا مثل شموع بيضاء اللون يصهرهم نار الشوق، يتقاسمون البكاء والتهليل والتكبير واستعطاف ابن زياده بالسماح لهم بتقبيل البراواز أو حتى لمسه .
انتزعت نفسي ممارأيت وأنا في حيرة من أمري، كأنني في حلم غريب لايمكنني تفسيره، عزمت على سؤال شيخي عن سبب كثرة مجانين الساحة هذا العام؟
صادفني وأنا في طريقي إليه، يلبس السواد ويضع قلنسوة سوداء اللون على رأسه، يتدلى على صدره صليب كبير؛ شأن ما كان يفعل الحسين بن منصور الحلاج في شطحاته.. يتبعه خلق أعرف وجوههم لكن تغيب عني اسماؤهم . لم أستنكر هيئته، فالمظاهر في طريق المعشوق لايعول عليها ــ هكذا علمنا شيوخنا ــ إنحنيت على يده أقبلها وأبثها أشواقي، رفع يدي إليه وقبلها أولًا، ثم تركني أقبل يده، ابتسم قائلًا وهو يربت على كتفي: إنتظرني في بيتي فأنا هناك.. لم أتعود مخالفته مااستطعت؛ هززت رأسي وأغمضت عيني إشارة الطاعة رغم أني لا أعرف مكان بيته !
عزمت على تقديم آداب الزيارة أولًا إنصياعًا محبوبًا لدولة الباطن،
توضأت، دخلت المسجد؛ وقفت قبالة المحراب أقيم الصلاة.. بعدها أزور ضريح مولانا صاحب الفرح.. بعد ذلك أبحث عمن يدلني على مكان بيت شيخنا .
كاد عقلي يغادرني عندما وجدته يتقدمني إمامًا؛ يرفل في ثوب أبيض اللون فضفاض، وعطر البيت العتيق يفوح منه ! ابتسم وكأنه يرحب بي، فرأيت نجوم الليل ترقص في عينيه، قال بلهجة الآمرالمحب:
أقم الصلاة يامجنون ؟.