تحدث في مركز سمنود غربية عن رجل أخذ من العلم تواضعه في قلب الدلتا المصرية، حيث ينساب فرع رشيد للنيل بهدوء، تقع مدينة سمنود، تلك المدينة العريقة التي تحمل بين طياتها تاريخًا يمتد إلى عصور الفراعنة. كانت سمنود يومًا ما عاصمة لمصر كلها، وحتى اليوم، ما زالت تحتفظ بذلك السحر القديم الذي يجعلها تبدو وكأنها لوحة فنية مرسومة بيد الزمن.
كانت الشمس تشرق بلون ذهبي خافت على مياه النيل، حيث كانت الضبابية الصباحية تلامس سطح الماء، فتكشف عن مراكب صغيرة تتحرك ببطء، كأنها تتنفس مع نبض النهر. في تلك اللحظة، بدت سمنود وكأنها تستيقظ من سبات عميق، حيث بدأت أصوات الأذان تتداخل مع أصوات الباعة المتجولين الذين يملؤون الشوارع الضيقة برائحة الخبز الطازج والفول الساخن.
في وسط المدينة، حيث يقع ميدان النحاس باشا، كانت الحياة تدب بوتيرة مختلفة. هناك، حيث تلتقي العمارة القديمة بالحديثة، كان الميدان يشهد حركة دائمة. الأطفال يلعبون بالقرب من النافورة القديمة، بينما يجلس كبار السن على المقاعد الخشبية، يتذكرون أيامًا مضت كانت فيها سمنود مركزًا للتجارة والصناعة. كانت رائحة القهوة العربية تفوح من المقاهي الصغيرة، حيث يجتمع الرجال ليتناقشوا في شؤون الحياة والسياسة.
على بعد خطوات من الميدان، يقع جامع المتولي، ذلك المسجد العتيق الذي يقف شامخًا منذ قرون. مئذنته الشاهقة تبدو وكأنها تحرس المدينة، بينما تزين جدرانه الزخارف الإسلامية التي تحكي قصصًا من عصر المماليك. داخل المسجد، كان الشيخ إبراهيم، أحد أبناء المدينة، يلقي درسًا عن التسامح والحكمة، بينما يستمع إليه المصلون بانتباه، وكأنهم يستمدون من كلماته قوة تدفعهم لمواجهة تحديات الحياة.
على ضفاف النيل، حيث يقع حمام سمنود الأثري، كانت المياه تتدفق بهدوء داخل الحمام، الذي ما زال يحتفظ برونقه منذ القرن الثامن عشر. الحمام، الذي كان يومًا ما مكانًا للاسترخاء والاجتماعات، أصبح الآن تحفة أثرية تذكر الزائرين بعظمة الماضي. بالقرب من الحمام، كانت كنيسة الشهيد أبانوب تقف بوقار، حيث يزورها المسيحيون والمسلمون على حد سواء، ليتأملوا في تاريخها الذي يعود إلى أيام الهروب المقدس.
في أحياء المدينة القديمة، حيث الشوارع الضيقة والمباني المبنية من الطوب الأحمر، كانت الحياة تسير ببطء. هناك، حيث توجد ورش الفخار الصغيرة، كان الحرفيون يعملون بجد، محافظين على صناعة توارثوها عن أجدادهم. رائحة الطين تملأ المكان، بينما تشكل الأيدي الماهرة أواني فخارية تبدو وكأنها تحمل روح المدينة.
في أحد الأيام، قرر شاب يدعى أحمد، وهو من أبناء سمنود، أن يعود إلى مدينته بعد سنوات قضاها في القاهرة. كان أحمد يحمل معه حلمًا بإحياء تراث المدينة. بدأ بمشروع صغير لترميم المباني القديمة وتحويلها إلى أماكن ثقافية وسياحية. بمرور الوقت، تحولت سمنود إلى وجهة للزائرين الذين يأتون ليتعرفوا على تاريخها ويستمتعوا بجمالها.
كانت سمنود، بتلك الروح التي تجمع بين الماضي والحاضر، تثبت دائمًا أنها أكثر من مجرد مدينة. إنها قصة حكاية، حكاية أرض مقدسة، وحكاية شعب يعتز بتراثه ويحلم بمستقبل أفضل. وفي كل مرة تشرق فيها الشمس على مياه النيل، تبدو سمنود وكأنها تهمس بسرها الخالد: “أنا هنا، منذ آلاف السنين، وسأظل هنا، شاهدًا على تاريخ لا ينتهي.”
ب
في صيف سمنود الحار، حيث ترتفع درجة الحرارة وتغمر أشعة الشمس الشوارع بوهجها الذهبي، كان الدكتور محمود يفضل ارتداء الجلبية البيضاء الناعمة، تلك التي تسمح للهواء بالمرور وتخفف من حرارة الجو. كانت الجلبية بسيطة، بدون زخارف كثيرة، لكنها أنيقة، تعكس شخصيته الهادئة والمتواضعة. كان يحرص على ارتداء طاقية قطنية خفيفة فوق رأسه، تحميه من أشعة الشمس الحارقة أثناء تجواله بين المرضى في أحياء المدينة.
كان الدكتور محمود، رغم مكانته العلمية ودرجته الأكاديمية، لا يذكر لأحد أنه دكتور. كان يفضل أن يعرفه الناس باسمه فقط، دون ألقاب. كان يعتقد أن العلم ليس لقبًا يُفاخر به، بل مسؤولية تجاه المجتمع. لذلك، كان يتنقل بين المرضى في أحياء سمنود القديمة، حيث الشوارع الضيقة والمباني العتيقة، وكأنه واحد من أهلها. كان يحمل حقيبته الطبية البسيطة، ويجلس مع المرضى في بيوتهم، يستمع إليهم باهتمام، ويعالجهم بحكمة وصبر.
أما في الشتاء، عندما تهب رياح باردة من فوق النيل، وتكتسي السماء بغيوم رمادية، كان الدكتور محمود يغير من لبسه. يرتدي الجلبية السوداء الثقيلة، التي تحميه من برد الشتاء القارس. فوق الجلبية، كان يضع معطفًا أسود طويلًا، يعطيه مظهرًا وقورًا، لكنه يظل بسيطًا كعادته. كان يرتدي أيضًا وشاحًا صوفيًا رمادي اللون، يلفه حول عنقه، بينما تغطي طاقية صوفية سميكة رأسه.
لكن الدكتور محمود لم يكن يرتدي هذه الملابس بشكل عادي. كان دائمًا يختار أقمشة “مهمشة”، كما يسميها أهل سمنود، وهي الأقمشة التي تحمل زخارف بسيطة وخطوطًا رفيعة، تعطي مظهرًا كلاسيكيًا دون أن تكون فاخرة. كان يعتقد أن الأناقة تكمن في البساطة، وأن المظهر الخارجي لا يجب أن يطغى على الجوهر.
في أحد أيام الشتاء الباردة، بينما كان الدكتور محمود يتجول في حي الراهبين، أحد أحياء سمنود القديمة، لاحظ أن أحد المرضى الذين يزورهم بانتظام، الجد سعيد، لم يخرج لاستقباله كالعادة. دق الباب بقلق، ليجد الجد سعيد يعاني من نزلة برد شديدة. بسرعة، فتح الدكتور محمود حقيبته الطبية، وبدأ في فحص الجد سعيد، بينما كانت زوجة الجد تعد له كوبًا من الشاي الساخن.
بعد أن وصف الدواء للجد سعيد، جلس الدكتور محمود بجانبه، وبدأ يحكي له قصة من أيام شبابه، عندما كان يدرس الطب في القاهرة. كان يحكي بحماس عن كيف تعلم أن الطب ليس مجرد علاج للأجساد، بل أيضًا للقلوب. الجد سعيد، الذي كان يستمع باهتمام، ابتسم وقال: “أنت يا دكتور محمود، مش بس بتحلّي المرض، بتحلّي القلب كمان.”
خرج الدكتور محمود من بيت الجد سعيد، وهو يشعر بدفء غريب، رغم برودة الجو. كان يعلم أن عمله الصغير في هذه المدينة العريقة، هو ما يعطي حياته معنى. وفي طريق عودته إلى بيته، مر بجانب جامع المتولي، حيث كان صوت المؤذن يصدح بالآذان. توقف للحظة، وأغمض عينيه، مستمعًا إلى الأذان، وكأنه يستمد منه قوة جديدة.
كان الدكتور محمود، برباطة جأشه وبساطته، جزءًا من نسيج هذه المدينة. كان يعيش بين أهلها، يعالجهم، ويستمع إليهم، ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم. ولم يكن بحاجة إلى أن يذكر أحدًا بأنه دكتور، لأن أفعاله كانت تتحدث عنه أكثر من أي لقب. وفي كل مرة يرتدي فيها جلبية الصيف البيضاء أو معطف الشتاء الأسود، كان يعلم أنه يرتدي أكثر من مجرد ملابس؛ كان يرتدي قصة حياة، قصة رجل اختار أن يكون جزءًا من قلوب
كان الدكتور محمود يؤمن إيمانًا عميقًا بأن تقييم الإنسان من خلال مظهره الخارجي هو خطأ فادح، بل “عوار كبير”، كما كان يردد دائمًا. كان يعتقد أن المظاهر خادعة، وأن القيمة الحقيقية للإنسان تكمن في أفعاله وأخلاقه، لا في ما يرتديه أو يمتلكه. لذلك، كان يعيش حياته ببساطة شديدة، وكأنه يرفض أن يكون أسيرًا للمظاهر التي يلهث وراءها الكثيرون.
في بيته المتواضع بحي الراهبين، كان الدكتور محمود يفترش الأرض بفراش بسيط من القش، ينام عليه كل ليلة. لم يكن يملك سريرًا فاخرًا، ولا أثاثًا باهظ الثمن. كان بيته عبارة عن غرفة صغيرة، بها مكتب خشبي قديم مليء بالكتب الطبية، وكرسي مهترئ، وبعض الأواني الفخارية التي صنعها بيديه في أوقات فراغه. كان يقول لأصدقائه القلائل الذين يزورونه: “الأرض كفاية، هي أمنا جميعًا، فلماذا نبحث عن أكثر من ذلك؟”
كان يرتدي ملابس بسيطة دائمًا، سواء في الصيف أو الشتاء، دون أن يهتم بما يقوله الناس عنه. حتى عندما كان يذهب إلى المؤتمرات الطبية في المدن الكبرى، كان يظهر بنفس الجلبية البسيطة والمعطف الأسود المهمش، دون أن يهتم بنظرات الاستغراب أو التعليقات التي يسمعها أحيانًا. كان يقول لنفسه: “لو كانوا يعرفون ما بداخلي، لما نظروا إلى ما عليّ.”
في أحد الأيام، بينما كان الدكتور محمود يجلس في عيادته الصغيرة، التي كانت عبارة عن غرفة متواضعة في منزله، دخل عليه شاب يرتدي بدلة أنيقة وساعة فاخرة. كان الشاب يبدو متعجرفًا، ينظر إلى الدكتور محمود باستعلاء، وكأنه يستغرب كيف يمكن لرجل بهذا المظهر البسيط أن يكون طبيبًا. بدأ الشاب يتحدث عن نفسه بفخر، وعن وظيفته المرموقة في شركة كبيرة، وعن سيارته الفاخرة التي ركنها خارج المنزل.
استمع الدكتور محمود بهدوء، ثم ابتسم وقال: “يا بني، المظاهر قد تخدع، لكن القلب لا يخدع. أنا هنا لأساعد الناس، لا لأثبت لهم أني أفضل منهم.” ثم أضاف: “لو كنت تبحث عن طبيب يرتدي بدلة فاخرة ويجلس في عيادة فارهة، فأنا لست الرجل المناسب لك.”
خرج الشاب من العيادة، وهو يشعر بالخجل. لكن بعد أيام قليلة، عاد مرة أخرى، هذه المرة بملابس بسيطة، وبتواضع واضح. قال للدكتور محمود: “لقد تعلمت منك درسًا لن أنساه أبدًا. شكرًا لأنك علمتني أن المضمون أهم من المظهر.”
كان الدكتور محمود يعيش بهذه الفلسفة كل يوم. كان يرى أن المظاهر الزائفة لا تعني شيئًا في النهاية، وأن الإنسان يُقاس بما يقدمه للآخرين، لا بما يملكه. وفي كل مرة كان يفترش الأرض لينام، كان يشعر بأنه أقرب إلى الحقيقة، إلى جوهر الحياة الذي لا يعرفه إلا من يرفض أن يكون عبدًا للمظاهر.
وفي سمنود، تلك المدينة العريقة، كان الدكتور محمود رمزًا للبساطة والتواضع. كان الناس يحترمونه ليس لأنه دكتور، بل لأنه إنسان بمعنى الكلمة. وكان هو يعلم أن قيمته الحقيقية تكمن في قلبه، لا في ما يرتديه أو يملكه. وهكذا، عاش حياته، بعيدًا عن زيف المظاهر، قريبًا من حقيقة الإنسان.
كان الدكتور محمود، بروحه الحكيمة وفلسفته العميقة، دائمًا ما يردد تلك العبارات التي تحمل في طياتها حكمته البسيطة العميقة: “الله في قلوبنا هو باطم، وإن ناصيتنا نخبئها بالجبين.” كان يعتقد أن الإيمان الحقيقي ليس في المظاهر الخارجية، ولا في التفاخر بالعبادات، بل في القلب، في تلك النقطة العميقة التي لا يراها أحد إلا الله. وكان يقول إن الجبين، الذي يخفي الناصية، هو رمز للتواضع، لأن الإنسان يجب أن يخفي فضائله، ولا يتباهى بها.
أما عن العلم، فكان الدكتور محمود يرى أنه سلاح ذو حدين. كان يقول: “العلم يجب أن يخلق إنسانًا، لا وحشًا.” وكان يؤمن أن العلم الحقيقي هو الذي يرفع من قيمة الإنسان، ويجعله أكثر إنسانية، لا ذلك العلم الذي حرفه الغرب لخدمة المصالح المادية، فحوّله إلى أداة للهيمنة والدمار. كان يرى أن العلم الذي لا يرتبط بالقيم الأخلاقية والإنسانية هو علم مشوه، لا يختلف عن الوحشية.
في إحدى ليالي الشتاء الباردة، بينما كان الدكتور محمود جالسًا في غرفته المتواضعة، يحاور تلميذه الشاب علي، الذي كان يدرس الطب في جامعة طنطا، قال له: “يا علي، العلم بدون ضمير خراب للروح. أنت تدرس الطب لتنقذ حياة الناس، لا لتجمع المال أو لتتباهى بشهادتك. تذكر دائمًا أن الله في قلبك يراقبك، وأن ناصيتك مخبأة في جبينك، فلا تتفاخر بما تعلمت.”
كان علي يستمع باهتمام، وهو يشعر بأن كلمات الدكتور محمود تخترق قلبه مثل نور يضيء ظلامًا طالما أحاط به. قال له: “لكن يا دكتور، الجميع حولي يتحدثون عن المال والمناصب، وكأن العلم مجرد وسيلة للوصول إلى ذلك.”
فأجاب الدكتور محمود بهدوء: “هذا هو الفرق بيننا وبين الغرب. لقد حوّلوا العلم إلى سلعة، وجعلوا القيمة المادية هي المقياس الوحيد للنجاح. لكننا نحن، كمسلمين وكعرب، يجب أن نعيد للعلم قيمته الحقيقية. العلم هو نور، وهو أمانة، وهو وسيلة لخدمة البشرية، لا لاستغلالها.”
كان الدكتور محمود يعيش بهذه القناعة كل يوم. في عيادته الصغيرة، كان يعالج المرضى دون أن يسألهم عن قدراتهم المادية. كان يقول: “العلاج حق لكل إنسان، وليس لمن يملك المال فقط.” وكان يرفض أن يتحول الطب إلى تجارة، كما حدث في الكثير من المستشفيات الكبرى. بل كان يعتقد أن الطبيب الحقيقي هو الذي يشعر بآلام مرضاه، ويعاملهم كأفراد من عائلته.
وفي إحدى المرات، عندما سأله أحد المرضى عن سبب عدم افتتاحه عيادة كبيرة في القاهرة، حيث يمكنه كسب المال والشهرة، أجاب الدكتور محمود بابتسامة هادئة: “لو كنت أبحث عن المال، لما بقيت هنا في سمنود. لكني أبحث عن شيء أهم: أبحث عن رضا الله، وعن أن أكون إنسانًا قبل أن أكون طبيبًا.”
كان الدكتور محمود يعيش في بساطة، لكنه كان غنيًا بقيمه وإنسانيته. كان يعلم أن العلم الحقيقي هو الذي يبني الإنسان، لا الذي يهدمه. وكان يؤمن أن الإيمان القوي، الذي يسكن القلب، هو الذي يجعل الإنسان قادرًا على مواجهة كل التحديات، دون أن يفقد إنسانيته.
وهكذا، عاش الدكتور محمود، حاملاً في قلبه إيمانًا عميقًا، وفي عقله علمًا نقيًا، وفي روحه إنسانية لا تعرف الوحشية. كان يقول دائمًا: “العلم بدون إيمان كالسفينة بدون شراع، والإيمان بدون علم كالشراع بدون سفينة.” وكان يعيش بهذه الحكمة، ليكون نموذجًا للإنسان الحقيقي، الذي يرفض أن يكون عبدًا للمظاهر أو للأموال، ويختار أن يكون عبدًا للقيم التي تجعل الحياة جديرة بأن تُعاش.
كان الدكتور محمود، برؤيته الثاقبة وحكمته التي استقاها من سنوات طويلة من العمل والعطاء، يؤمن بأن العلم ليس سلعة تُباع وتُشترى، ولا أداة تُستخدم لخدمة أيديولوجيات معينة. كان يقول دائمًا: “العلم ليس اشتراكيًا ولا رأسماليًا، ولا يخضع لما يسمونه ‘الحرية الجديدة’. العلم هو نور، وهو أمانة، وهو درسٌ تُحفّه الأخلاق.”
كان يعتقد أن العلم الحقيقي يجب أن يكون مرتبطًا بالقيم الأخلاقية، وأن دوره الأساسي هو بناء الإنسان، لا تدميره. كان يردد دائمًا لتلاميذه: “العلم بدون أخلاق كشجرة بلا جذور، سريعًا ما تسقط عند أول عاصفة.” وكان يرى أن الأخلاق هي التي تحفظ للعلم قيمته، وتجعله أداة للخير، لا للشر.
في مدرسة سمنود الثانوية، حيث كان الدكتور محمود يزور أحيانًا ليُلقي محاضرات عن أهمية الأخلاق في العلم، كان يقف أمام الطلاب، الذين ينظرون إليه باحترام شديد، ويقول: “أنتم يا أبنائي، لستم مجرد أذهان تملؤونها بالمعلومات. أنتم بشر، وعلمكم يجب أن يكون مصحوبًا بقلوب تعرف الرحمة، وعقول تعرف العدل، وأرواح تعرف الإنسانية.”
كان الدكتور محمود يعتقد أن دور المدرسة لا يقتصر على تعليم الطلاب كيفية حل المعادلات أو حفظ التواريخ، بل يجب أن تعلمهم كيف يكونون بشرًا أفضل. كان يقول: “المدرسة هي المكان الذي نزرع فيه بذور الأخلاق، حتى تنمو مع العلم، وتصبح شجرة قوية تظلّل المجتمع بالخير.”
أما في الجامعة، حيث كان الدكتور محمود يشارك أحيانًا في ندوات علمية، كان يرى أن دور الأستاذ الجامعي لا يقتصر على نقل المعلومات، بل يجب أن يكون قدوة أخلاقية لطلابه. كان يقول: “الأستاذ الذي لا يحترم أخلاقيات العلم، ولا يعلم طلابه قيمة النزاهة والصدق، هو أستاذ فاشل، حتى لو كان يحمل أعلى الشهادات.”
وفي المختبرات، حيث كان الدكتور محمود يقضي ساعات طويلة في البحث والتجريب، كان يعلم أن الأخلاق هي التي تحدد اتجاه البحث العلمي. كان يقول: “المختبر ليس مكانًا للعبث أو للتجارب التي تهدد الإنسانية. المختبر هو مكان لخدمة البشرية، ولذلك يجب أن تحكمه أخلاقيات صارمة.”
حتى في المؤتمرات العلمية، حيث يجتمع العلماء من مختلف أنحاء العالم، كان الدكتور محمود يرفض أن يتحول العلم إلى مسابقة للتفاخر أو للصراعات الشخصية. كان يقول: “المؤتمر العلمي يجب أن يكون مكانًا للحوار البنّاء، وليس لتبادل الاتهامات أو التفاخر بالإنجازات. العلم هو جسر للتواصل بين البشر، لا سورًا يفصل بينهم.”
كان الدكتور محمود يعيش بهذه الفلسفة كل يوم. كان يعلم أن العلم الحقيقي هو الذي يخدم الإنسانية، ويحترم القيم الأخلاقية، ولا يخضع لأي أيديولوجيات أو مصالح شخصية. وكان يؤمن أن الأخلاق هي التي تحفظ للعلم قيمته، وتجعله أداة للخير، لا للشر.
وفي إحدى الليالي، بينما كان الدكتور محمود يجلس في غرفته المتواضعة، يكتب ملاحظاته في دفتر قديم، قال لنفسه: “العلم هو درسٌ تُحفّه الأخلاق. في المدرسة، في الجامعة، في المختبر، في الندوة، في المؤتمر. العلم هو نور، وهو أمانة، وهو مسؤولية.”
وهكذا، عاش الدكتور محمود، حاملاً في قلبه إيمانًا عميقًا بأن العلم والأخلاق هما وجهان لعملة واحدة. وكان يعلم أن دوره في هذه الحياة ليس فقط أن يعلم الناس، بل أن يعلمهم كيف يكونون بشرًا أفضل. وكان يعيش بهذه القناعة، ليكون نموذجًا للعالم الحقيقي، الذي يرفض أن يكون العلم أداة للهيمنة أو التدمير، ويختار أن يكون أداة للبناء والرحمة.
في ذلك اليوم، خرج الدكتور محمود من عيادته المتواضعة، متجهًا إلى وسط مدينة سمنود، حيث كان من المقرر أن يلقي محاضرة صغيرة في أحد المراكز الثقافية عن أهمية الأخلاق في العلم. كان يرتدي جلبية بسيطة، وحذاءً قديمًا، وحقيبته الطبية المتهالكة على كتفه. كان يعلم أن مظهره لا يهم، لأن القيمة الحقيقية تكمن في ما يقوله، لا في ما يرتديه.
لكن عندما وصل إلى المكان، وجد مجموعة من الشباب يتجمعون عند مدخل المركز، يتحدثون بصوت عالٍ. كان عاطف، الشاب الطموح الذي يعمل في مجال التسويق، يتزعم المجموعة. كان يرتدي بدلة أنيقة، وساعة فاخرة، ويتباهى بمظهره الخارجي. عندما رأى الدكتور محمود، ابتسم ابتسامة ساخرة وقال: “إحنا هنا في وسط المدينة يا دكتور، مش في قرية صغيرة. المظاهر مهمة، والعلم ما ينفعش يطلع دراويش زي ما أنت لابس!”
ضحك الشباب الذين كانوا مع عاطف، بينما وقف الدكتور محمود صامتًا للحظة، ينظر إليهم بنظرة حزينة لكنها مليئة بالحكمة. ثم قال بهدوء: “يا عاطف، العلم مش لبس ولا مظاهر. العلم نور، ولو كان في قلب إنسان بسيط، فهو أغلى من كل البهارج اللي بتلبسها.”
لكن عاطف لم يستمع. استمر في سخرية، وقال: “خلاص يا دكتور، روح افترش الأرض في قريتك، واحنا هنا بنتكلم لغة العصر!”
كان الموقف مؤلمًا للدكتور محمود، لكنه لم يفقد هدوءه. أدار ظهره ومشى بعيدًا، بينما كان صوت ضحك الشباب يلاحقه. وصل إلى ساحة صغيرة بالقرب من النيل، وجلس على الأرض، يفكر في ما حدث. كان يشعر بالحزن، ليس لأنهم أساؤوا إليه، بل لأنهم أساؤوا إلى العلم نفسه.
بعد ساعات، بينما كان الدكتور محمود يجلس على ضفاف النيل، يفكر في ما حدث، اقترب منه شاب صغير يدعى أحمد، كان أحد تلاميذه السابقين. قال له أحمد: “يا دكتور، أنا سمعت اللي حصل. متزعلش منهم، دول مش فاهمين إن العلم مش شكليات.”
نظر الدكتور محمود إلى أحمد، وابتسم ابتسامة صغيرة، وقال: “يا أحمد، العلم مش بس معلومات، ده أسلوب حياة. لو كانوا فاهمين كده، ماكانوش ضحكوا عليَّ.”
لكن أحمد كان غاضبًا. قال: “بس يا دكتور، إحنا مش ممكن نسيّبهم يهينوك كده. أنت راجل كبير، وعلمك أكبر من كل اللي معاهم.”
فأجاب الدكتور محمود بهدوء: “يا أحمد، الإهانة الحقيقية مش في كلامهم، إنما في إنهم مش فاهمين معنى العلم. دورنا إننا نعلمهم، مش إننا نغضب منهم.”
وفي الأيام التالية، بدأ الدكتور محمود في تنظيم ندوات صغيرة في أحياء سمنود، يتحدث فيها عن أهمية الأخلاق في العلم، وعن أن المظاهر ليست مقياسًا للقيمة الحقيقية للإنسان. كان يجلس على الأرض، يحكي للناس عن تجاربه، وعن كيف أن العلم الحقيقي هو الذي يخدم البشرية، لا الذي يخدم المصالح الشخصية.
وبمرور الوقت، بدأ بعض الشباب، الذين كانوا يسخرون منه، يغيرون من نظرتهم. حتى عاطف نفسه، الذي كان يتزعم المجموعة، بدأ يشعر بالندم. في أحد الأيام، اقترب من الدكتور محمود، وقال له: “يا دكتور، أنا آسف على اللي قلته. أنا كنت غلطان، ومش فاهم إن العلم مش شكليات.”
نظر الدكتور محمود إلى عاطف، وابتسم، وقال: “العلم يا عاطف مش بس معلومات، ده أسلوب حياة. لو فهمت كده، هتكون إنسانًا أفضل.”
وهكذا، عاد الدكتور محمود إلى مكانته في قلوب الناس، ليس لأنه غيّر من مظهره، بل لأنه أثبت أن القيمة الحقيقية تكمن في الأفعال، لا في المظاهر. وكان يعلم أن دوره في هذه الحياة ليس أن يرضي الناس، بل أن يخدمهم، ويعلمهم كيف يكونون بشرًا أفضل.
قال الدكتور محمود، وهو يجلس في غرفته المتواضعة، ينظر إلى مجموعة من الكتب المتناثرة على طاولته الخشبية القديمة: “الناس اليوم حيارى بين المظهر والقيمة. يعكفون على الاستهلاك، ويدينون أنفسهم بالقروض، من أجل إشباع رغبات لا تنتهي. هذه الحيرة ليست مشكلة فردية، بل هي معاناة إنسانية تعبر عن أزمة قيم عميقة.”
كان الدكتور محمود يتحدث من واقع خبرته ومعرفته، حيث لاحظ أن المجتمع الذي يعيش فيه، مثل الكثير من المجتمعات حول العالم، أصبح أسيرًا لثقافة الاستهلاك. “الناس يركضون وراء المظاهر، ظنًا منهم أن السعادة تكمن في ما يملكون، لا في ما هم عليه. لكنهم في النهاية يجدون أنفسهم غارقين في الديون، وحياتهم فارغة من المعنى.”
أشار الدكتور محمود إلى بعض الإحصائيات التي قرأها في تقرير حديث عن الاستهلاك في مصر. “في عام 2023، بلغت ديون الأفراد في مصر أكثر من 400 مليار جنيه. هذه الأرقام ليست مجرد أرقام، بل هي تعبير عن أزمة قيم. الناس يقترضون لشراء سيارات فاخرة، وهواتف ذكية، وملابس ماركات، بينما يعانون من ضغوط نفسية واقتصادية لا تنتهي.”
ثم توقف للحظة، وأضاف: “هذه الأزمة ليست اقتصادية فقط، بل هي نفسية أيضًا. الدراسات النفسية تشير إلى أن الاستهلاك المفرط مرتبط بالاكتئاب والقلق. الناس يشعرون بالفراغ، فيحاولون ملئه بشراء أشياء لا يحتاجونها. لكن السعادة الحقيقية لا تأتي من الخارج، بل من الداخل.”
من الناحية الفلسفية، كان الدكتور محمود يرى أن هذه الأزمة تعود إلى فقدان الإنسان لمعنى الحياة الحقيقي. “الفلسفة الوجودية تتحدث عن أزمة المعنى في العصر الحديث. الإنسان أصبح يعبد المادة، ونسي أن له روحًا تحتاج إلى إشباع. المظاهر لا تعطي معنى للحياة، بل تجعل الإنسان يشعر بالعبثية.”
أما من الناحية الدينية، فقد استشهد الدكتور محمود بآيات من القرآن الكريم وأقوال من الإنجيل. “في الإسلام، يقول الله تعالى: ‘وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ’ (آل عمران: 185). هذه الآية تذكرنا بأن الدنيا ليست إلا متاعًا زائلًا، وأن القيمة الحقيقية تكمن في العمل الصالح والإيمان. وفي المسيحية، يقول الإنجيل: ‘لأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا’ (متى 16: 25). هذه الكلمات تعلمنا أن السعادة الحقيقية تكمن في العطاء، لا في الأخذ.”
كان الدكتور محمود يعتقد أن الحل لهذه الأزمة يكمن في إعادة تعريف القيم. “علينا أن نعلم أبناءنا أن القيمة الحقيقية للإنسان تكمن في أخلاقه، وفي ما يقدمه للآخرين، لا في ما يملكه. العلم يجب أن يكون أداة لخدمة البشرية، لا لتعظيم المظاهر.”
ثم أضاف: “الناس يحتاجون إلى أن يتوقفوا عن الركض وراء المظاهر، وأن يعيدوا اكتشاف أنفسهم. السعادة ليست في امتلاك أحدث الهواتف أو السيارات، بل في الرضا الداخلي، وفي العلاقات الإنسانية العميقة.”
وفي النهاية، قال الدكتور محمود: “علينا أن نتعلم من دروس الماضي، ومن حكم الأديان، ومن فلسفات الحكماء. الإنسان ليس مجرد جسد يحتاج إلى إشباع مادي، بل هو روح تحتاج إلى إشباع معنوي. عندما نفهم هذا، سنتوقف عن الاستهلاك المفرط، وسنعيش حياة أكثر توازنًا وسعادة.”
وهكذا، كان الدكتور محمود، برؤيته العميقة وحكمته، يحاول أن يضيء الطريق للناس، ليعيدوا اكتشاف القيم الحقيقية التي تجعل الحياة جديرة بأن تُعاش. وكان يعلم أن التغيير يبدأ من الداخل، ومن إعادة تعريفنا لأنفسنا وقيمنا. وفي ختام قصة تتشابك فيها خيوط القيمة والمظهر، نستشرف عالماً تسوده الحكمة والتآخي، حيث يُؤخذ الناس بما يحملون من إيجابيات بدلاً من التسرع في الحكم عليهم من خلال قشور المظاهر.
تتجلى الحكمة في تلك المقولة: “ليس كل ما يلمع ذهبًا”، فكما أن الغلاف الخارجي قد يوهمنا بالكمال، إلا أن الجوهر الحقيقي لا يُقاس بزخارف الشكل بل بعمق الروح وأخلاق الإنسان. إن المجتمع الذي يسعى لتفعيل هذه القيم هو مجتمع يُربّي أفراده على استيعاب الفروقات وتقدير القيم الحقيقية، مُتجاوزًا أحكام مسبقة وقوالب تقيد التفكير.
عندما نتسلح بالفهم ونؤمن بالتنوع كمنارة تُوجهنا، نُعزز من روح التعاون والمشاركة، فيولد أفق من الازدهار المجتمعي. لذا، فلنغرس في نفوسنا وقلوبنا أن المظهر قد يجذب الأنظار، لكن القيمة تُسحر القلوب وتبقى في الذاكرة. إننا نُصنع غدًا أفضل عندما نُحسن تفهمنا لأنفسنا وللآخرين، ونسعى جميعًا لبناء جسر من الاحترام والمودة، تتساوى فيه جميع القلوب بغض النظر عن مظهرها.
وفي النهاية، لنُدرك أن ما يُعنى بالمجتمع ليس ما يبدو عليه، بل ما يُخفيه من قيم إنسانية ومبادئ راسخة. فالتغيير يبدأ من داخلك، ومن هنا، لنُعزز تلك القيم ونجعلها نبراسًا يُضيء دروب المستقبل، مُحتضنين في ذلك اختلافنا، فكل اختلاف هو ثراء، وكل قيمة يمكن أن تُضفي جمالاً على حياتنا المعاشة.
اللهم يا رحمن يا رحيم، نسألك أن تحفّ مصر الغالية بعنايتك وحمايتك. اللهم املأ قلوب المصريين بالأمن والسلام، وبارك في جهودهم وأعمالهم.
اللهم احفظ الجيش المصري الباسل، وامنحه القوة والنصر في كل ما يواجهه. اللهم اجعلهم دائمًا درعًا للأمة وأمانًا لها.
برحمتك يا الله، نسألك أن تسدد خطى رئيسنا عبد الفتاح السيسي، وأن تنعم عليه بالتوفيق والحكمة في قيادة البلاد نحو مستقبل مشرق.
اللهم اجمع شمل المصريين على الخير والمحبة، واغمرهم برحمتك ومغفرتك.
أما بالنسبة لي، أسألك يا الله أن تبارك لي في حياتي، وتعينني على تحقيق أهدافي وتمنحني الصحة والسعادة.
آمين يارب العالمين.