شكّل موضوع اسلحة الدمار الشامل المحور الأساسي للسياسة الخارجية بين الشرق والغرب, وبالتحديد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إبّان فترة الحرب الباردة. وكان من الطبيعي ان تخيّم الأسلحة النووية على أجواء كل المباحثات الدولية, سواء بين الكتلتين او داخل الاحلاف العسكرية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية برعاية أميركية او روسية.
بعد خمسين عاماً من بدايتها, انتهى الفصل الأول من الدراما النووية بنهاية سعيدة, فزال الكابوس المخيّم والذي كان يتمثل بإمكانية حصول حرب نووية شاملة يجري فيها تدمير البشرية جرّاء تبادل القصف النووي بعشرات الآلاف من الرؤوس النووية التي تصل القوة التدميرية لكلٍّ منها الى عشرات لا بل مئات ألوف الأطنان من المتفجرات. وتخلّص المجتمع الغربي, الذي كان يعي هذا الخطر, من عقدة الخوف التي كانت قد دفعت الى الواجهة, مقولة “أن تصبح احمرَ أفضل من أن تكون ميتاً”.
صحيح أنه ومع انتهاء الحرب الباردة وما تبعها من جهود للتخلص من اكبر عدد من الاسلحة النووية التي كانت مصوّبة الى المدن والاهداف الأخرى ذات القيمة العالية, تراجعت نسبة التهديد التي كانت تشعر بها المجتمعات الى ادنى مستوى ممكن, لكن الهواجس لدى المسؤولين في العواصم الكبرى لم تتراجع بنفس النسبة وخصوصاً في واشنطن, حيث تبدلت روزنامة المسألة النووية لتحتل مكانها روزنامة جديدة تتحدث عن مخاطر اسلحة الدمار الشامل باشكالها النووية والكيماوية والبيولوجية وانتشارها المتسارع, في ظل بروز سعي حثيث لدى مجموعة من الدول الكبرى والمتوسطة والصغيرة لتطوير اسلحة الدمار الشامل.
ان تراجع مخاطر اندلاع حرب نووية شاملة بعد انتهاء الحرب الباردة لم يجعل من العالم مكاناً اكثر أماناً واستقراراً, حيث ان انتاج اسلحة الدمار الشامل وانتشارها في عدد من الدول, ما زال يشكل قلقاً لمعظم دول العالم, ولم تعد الاسلحة النووية وحدها مصدر القلق, فقد أضيف إليها سلاحان جديدان: الكيماوي والبيولوجي, خصوصاً وان انتاج بعض الاصناف من هذين السلاحين لا يتطلب تكنولوجيا خاصة معقدة او متقدمة, بل يمكن انتاجهما في مختبرات عادية, ومن مواد أولية أو نصف مصنّعة يمكن استيرادها من الاسواق العالمية لانها تصلح للاستعمال المزدوج, اي صناعة المستحضرات الكيماوية والأدوية او لحاجات تتعلق بالبحوث العلمية.
وهكذا يمكن القول ان التهديد لم ينته مع انتهاء الحرب الباردة ومع سعي الولايات المتحدة وروسيا لاجراء تخفيضات دراماتيكية في عدد الاسلحة النووية التي يمتلكها كل منهما, ولكن المخاطر الناتجة عنه تبدلت, فبدل الخوف الذي كان سائداً من امكانية اندلاع حرب نووية قادرة على إفناء البشرية, فقد تدنت المخاطر الى مستوى التدمير الشامل الذي يمكن ان يقتصر على مسرح محدّد للعمليات.
ويترتب على التبدل الجديد الحاصل مخاطر اكثر احتمالاً من امكانية استعمال عدد اصغر من الرؤوس النووية, في وقت تغيّرت فيه المفاهيم والقواعد الاستراتيجية التي كانت معتمدة للتقليل من مخاطر اندلاع حرب نووية شاملة.
مع ازدياد دور الولايات المتحدة تعاظماً بعد ان أصبحت القوة العظمى الوحيدة في العالم غداة تفكك الاتحاد السوفياتي, كان من الطبيعي ألا تتجاهل تنامي الخطر الجديد الناتج عن الانتشارالمتسارع لأسلحة الدمار الشامل, وخصوصاً في مناطق الشرق الاوسط وشبه القارة الهندية والشرق الاقصى, والتي ما زالت غارقة في نزاعات إقليمية مزمنة, تهدد باندلاع حروب يمكن ان تتوسع لاستعمال اسلحة الدمار الشامل, خصوصاً في غياب الاستراتيجيات والمفاهيم المتطورة التي يمكن ان تضبط او تحدّ من استعمالها.
استحوذ موضوع انتشار اسلحة الدمار الشامل على اهتمام صَنّاع القرار في الولايات المتحدة في اعقاب انتهاء الحرب الباردة اكثر من اي وقت مضى, حيث ركزت دوائر وزارتي الدفاع والخارجية ووكالة المخابرات المركزية على متابعة برامج وابحاث الدول الطامحة لامتلاك أسلحة الدمار الشامل, كما تابعت عن كثب انتقال التكنولوجيا المتطورة لصناعة السلاح النووي والصواريخ والمواد الداخلة في صناعة السلاح الكيماوي والبيولوجي باتجاه مناطق أبرزها: الشرق الأوسط, جنوبي آسيا وأميركا الجنوبية. وانطلاقاً من المصالح الحيوية الاميركية في منطقة الشرق الاوسط فقد ركزت الادارة الاميركية اهتماماتها لمتابعة النزعة المتنامية لانتشار اسلحة الدمار الشامل في المنطقة, كما بذلت جهوداً مكثفة لاحتواء التهديدات المحتملة القادمة, ولكن الموضوع بقي ضمن دائرة اهتمامات دوائر الادارة ولم يبلغ المستوى
اثبتت هجمات 11 أيلول على مركز التجارة العالمي ومبنى البنتاغون ان المخاوف والهواجس التي شغلت الدوائر الاميركية خلال عقود من مخاطر انتشار اسلحة الدمار الشامل, لم تبلغ المستوى المطلوب لتطرح امكانية تعرّض الولايات المتحدة نفسها لهجوم محدود تشنه مجموعات إرهابية او دول تطلق عليها تسمية “الدول المارقة” بأحد اسلحة الدمار الشامل. ولقد اظهرت الرسائل الملوثة بالجمرة الخبيثة, رغم محدودية عددها ومستوى التلوث المنخفض, مدى تعرّض المجتمع الاميركي لمثل هذا الهجوم.
لقد رأى العالم على شاشات التلفزة النتائج الرهيبة لهجمات ارهابية تشنها جماعات بواسطة طائرات مدنية, حوّلت حمولتها من المحروقات والتي تزيد عن 200 الف رطل الى سلاح دمار شامل, قتل بنتيجته ما يقارب ثلاثة آلاف مدني, وبشكل يزيد على عشرة أضعاف ما يمكن ان يتسبّب به انفجار شاحنة محملة بالمتفجرات
منذ هجمات 11 أيلول أصبح موضوع انتشار اسلحة الدمار الشامل, خصوصاً في أعقاب الصدمة التي تبعت ذلك جرّاء الرسائل المحملة بمادة “الإنتراكس” المعروفة بالجمرة الخبيثة, الهاجس الأساسي الذي يحرك سياسة الولايات المتحدة, سواء على الصعيد الديبلوماسي او الصعيد الأمني. ويمكن اعتبار امتلاك أسلحة الدمار الشامل وخصوصا النووية والبيولوجية, من قبل جماعات ارهابية او دول “مارقة” او معادية للولايات المتحدة أكبر تهديد للأمن الاميركي وبالتالي للأمن والاستقرار الدوليين. وتعتبر الولايات المتحدة بأنها تتعرض لتهديد مباشر وكبير في ظل الجهود السرية التي تبذلها دول عديدة “معادية لها” من اجل الحصول على التكنولوجيا النووية تمهيداً لصنع السلاح النووي. ولا يقتصر الخطر على هذه الدول بل يتعداها ليشمل المنظمات الاسلامية الأصولية, والتي تناصب الولايات المتحدة العداء, خصوصاً بعدما خرج هذا العداء الى العلن حيث لا يمر اسبوع دون ان نسمع بياناً أو تصريحاً متلفزاً لقيادة هذه المجموعات تعلن فيه عن خطط تعدّها لقتل اكبر عدد من الاميركيين او مهاجمة اهداف اميركية حيوية. وما يقضَّ مضجع القادة الاميركيين هو ان المنظمات هذه, “كالقاعدة” او ما شابهها من المنظمات الاصولية, قد درّبت آلاف النشطاء والارهابيين ووزعتهم على عدد كبير من الدول لانتقاء وترصد الاهداف الاميركية للانقضاض عليها في الوقت المناسب. ان الخطر الذي تشعر به الولايات المتحدة يتعاظم بعدما نجحت هذه الجماعات في تتطوير ادوات الهجوم من السيارة المحملة بالمتفجرات الي الطائرة التي تشبه السلاح التكتي النووي, وهي وفق بعض المعلومات, تسعى للحصول على أسلحة بيولوجية, او نووية من نوع “القنابل الوسخة” التي تعمل بالتلوث الاشعاعي. وبالواقع فقد ورد في التحقيقات مع افراد من “القاعدة” بأن أسامة بن لادن قد أبلغ مساعديه بان السعي للحصول على اسلحة الدمار الشامل يشكل مهمة مقدسة. وتبقى المسألة المطروحة في ما اذا كان سينجح في الحصول عليها.
في التقويم العام لموضوع انتشار اسلحة الدمار الشامل, وخصوصا في منطقتي غربي آسيا والشرق الاوسط, لعب النزاع الهندي الباكستاني المزمن في كشمير, والصراع العربي الإسرائيلي المتمادي مع استمرار إسرائيل في احتلالها للاراضي العربية, بالاضافة الى تطوير اسرائيل لترسانة نووية كبرى, دوراً أساسياً في إيجاد الدوافع والمبررات للبحث في تطوير أسلحة دمار شامل للحفاظ على توازن الرعب كما حصل بين الهند وباكستان, او التعويض عن العامل النووي بامتلاك اسلحة كيماوية او بيولوجية, اومن خلال قوة صاروخية ذات رؤوس تقليدية, بهدف تحقيق حالة تصحيح محدود للتوازن العسكري بين بعض الدول العربية وإيران من جهة واسرائيل من جهة ثانية.
وبرزت مع نهاية الحرب الباردة مخاوف من ان تتسرب بعض الرؤوس النووية الجاهزة او على الاقل المواد المشعّة الجاهزة لصنع سلاح نووي باتجاه الشرق الاوسط أو شبه القارة الهنديّة. كما برزت مخاوف جديدة أخرى من ان تتسرب المعارف والتقنيات اللازمة عن صنع السلاح النووي عبر شبكة الانترنت. كذلك فإن الإحتمال المتمثل بالسوق السوداء بالاضافة الى انتقال المعلومات التقنية عبر الحدود دون رقابة, وضع مؤسسات الرقابة الدولية على الطاقة النووية في حالة إنذار, خصوصاً بعد ان شهدت السوق السوداء لتجارة المواد المشعة حركة نشيطة وغير اعتيادية, استدعت تحركاً ديبلوماسياً اميركياً واسعاً وضاغطاً باتجاه عدد من الدول كالعراق وايران وكوريا الشمالية وباكستان. ويرى المسؤولون الاميركيون ان هناك امكانية ان توفر النزاعات المتعددة لامتلاك اسلحة الدمار الشامل بعض الظروف المادية, في السنوات القادمة, لوقوع حادث نووي تكون نتائجه كارثية, تتعدى النتائج التي عرفها العالم بتفجير قنبلتي هيروشيما وناكازاكي عام 1945, حيث قتل ما يزيد على مئة ألف ياباني وشوّه عشرات الالوف.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان