-#أما قبل..
وإن ذلك الشعور يولد حينما يولد أول مرة..
هناك..
في القلب..
ثم يتحول ببطء يا سيدي..
إلى ذلك الاعتياد القاتل الذي يميت حلاوة الأشياء..
ويفقدها بريقها..
لأن الحب اختيار الله..
وهو نور يقذفه الله في القلب..
دون موعد ولا ظروف ولا ترتيب مسبق..
وتلاشي الانبهار بلادة البشر وعجزهم عن مواصلة السير فلا تلقي باللوم حينها على الآخر الذي أخذه العجز مثلك وأكثر..
ولا أحد حينها سيجبرك على عمق علاقة انتابتها السطحية فارتضى أطرافها بالقشور دون اللب..
وأطفأ أحدهما أو كلاهما ذلك النور فزال المصدر ومات البريق..
فلا تجد بعد مضي مدة قصيرة حديثا يليق بحجم توقعاتك سوى صباح الخير..
صباح الخير..
كيف حالك؟!..
آه..الحمد لله..
ويموت الحديث على زوايا الشفاه قبل أن يولد..
أو يعاني مخاضا عسيرا فيولد إثره مشوها..
ويظل العمر ملعونا بما لا ذنب له فيه ولا جريرة..
-#أما بعد..
ويموت الشعور يا سيدي..
بأنك لا تكتمل إلا بهذا الآخر..
أنك تشتاقه..
تحن إلى وجوده..
تتمنى حديثه..
ولو في تلك التفاصيل الصغيرة التافهة التي لا تهم بالأصل أحدا..
أن تحدثه حتى في اللا شيء..
كأنك مثلا استيقظت اليوم متأخرا..
فأخذت حماما باردا وأنت نصف نائم بسبب أرق أمس الذي منعك النوم باكرا ثم غادرت مباشرة وأنت لم تكمل ارتداء ملابسك بعد إلا على السلم الذي كنت تخشى السقوط من على درجتة الثامنة لوجود شرخ مخيف كأخدود صغير بها من أيام زلزال التسعينات أدى لتصدع البيت كله ووضعه على قائمة المباني الآيلة للسقوط..
ومع ذلك فشجاعتك المستميتة رفضت أن تتركه لتستبدله بآخر في الحي الفاخر الذي كنت تحلم دوما بالانتقال إليه فحال رفض أبيك وأمك دون ذلك..
أو أنك مثلا..
شربت عشر فناجين قهوة كان أولها غامقا جدا كلون حياتك قبل لقائك به..
وكان آخرها دون سكر لا لشيء إلا أنك تعلم أن من تحدثه يشربها سادة..
أو أن هاتفك أمس ظل يزعجك بتلك الاتصالات السخيفة لما بعد الثانية صباحا فلم تنم جيدا لوجود أكبر المشاكل بعملك الذي تصوره له على أنه أهم عمل بكل دوائر الحكومة..
وربما كنت تقضي نصف اليوم نائما..
أو أن الجو كان حارا لدرجة لا تطاق مما دفعك أن تنام دون غطاء فكنت فريسة سهلة في براثن البعوض..
أو أنك استيقظت صباحا باكرا جدا فوجدت أن أحد أزرار قميصك المفضل ناقص فاضطررت أن ترتدي واحدا آخر لا تحبه..
وتصور له وأنت تحدثه كم تضحياتك وبسالتك في مواجهة الحياة وكأنك من قام بفتح عكا..
وأنت ذلك الضعيف جدا الذي لا يقوى على نزلة برد تلقيه طريح الفراش شهرا..
وكأنك تستمده عونا دون طلب..
فتثرثر وتثرثر وهو يستمع دون كلل ولا ملل..
وكأنما تلقي على مسامعه جزء من إلياذة طويلة بطريقة شاعره المفضل..
-#يليه..
ثم أني يا سيدي أصفني لجلالة الأوراق بأني ذلك الصامت الصلب الذي لا يأبه كثيرا للأشياء ولا يعول على الأشياء..
وهو من داخله ذلك الطفل الكبير الذي ارتدى الكبر جسده مبكرا وقبل الموعد بألف وجع..
فأحيانا أشعر بالرغبة في بكاء هيستيري دونما سبب واضح..
فيصفونني بالجنون إلى ما بعد الجنون..
كيف لا وكل الأمور تدعو لتمزيق الشفاه ضحكا..
وشر البلية ما يضحك..
فألملم كل هذا الحزن على زوايا شفتي وأخفيه بضحكة باكية..
باكية على حلم قد ضاع..
على طفولة حزينة..
وصبا يتيم..
على مراهقة لم أعش من جنونها إلا الوقوف خلف ستائر شرفتي أنتظر مرور حبيبتي لتشرق الشمس وتعلن ميلاد يومي الموقوف على قيد عينيها..
على أمنية لم تكتمل وسنوات أضعتها في كنف من ألقاني على قارعة النسيان دون أن يطرف له جفن..
، تركني وكأنني لم أعبره يوما من الظلام إلى النور..
وكأنني لم أقترب من أبواب مدائن قلبه من قريب أومن بعيد..
وكان الخذلان هديته الأخيرة في موعد لقائنا الأخير الذي مضى عليه ثمانية عشر سنة على التمام والكمال..
وما زلت أعاني وجعا بذاكرة النسيان عندي أعجز النسيان عن النسيان..
فصرت مريضا بمرض الذكريات المزمن دون حول لي ولا قوة..
على ليلة..
كنت أود فيها أن أجد من يحتضنني بعمق..
ولو كان غريبا حتى..
ثم أتجرع كأس المرارة كاملة وأشعر بتلك الغصة الحانقة..
حينما أتذكر أنه لا يحضنك بعمق إلا من كان يحبك..
وأن الغرباء لا يحنون على أحد لا يعني لهم شيئا..
وقد فرط بك من ادعى يوما أنك كل شيء بعالمه..
فكيف بالغرباء إذن؟!..
ثم تبكي وتبكي وتبكي بحرقة شديدة وحسرة مكتومة..
حينما تتذكر أنك ستظل كل العمر على قيد عابري السبيل..
وأن الدنيا كلها لن تسعك بعد أن ضاق بك قلب من تحب وأرض من تحب وسماء من تحب..
-#يليه..
وإني لأعتذر يا سيدي عن كل تفاهاتي وحماقاتي وثرثراتي الكثيرة جدا..
فمشاعري التافهة تلك تخصني وحدي الآن..
وقد ذهب من ذهب ومضى من مضى بالروح وترك الهيكل في فراغ البين يقاسي شتى أنواع التنكيل دون ضربة ولا طعنة..
ثم أني يا سيدي جدُ..
آسفٌ جدا..
فلا أعرف كيف أشرحني بالأصل وأنا متعب حد الموت من كل شيء..
حتى مني..
وأختنق جدا بالكلمات كلما أردت أن أعبر عن عُشر عُشر وجعي..
فيخونني التعبير في كل مرة لألوذ بجنبات الصمت وتصرخ حينها الدواخل فقط..
وليست كل أذن تسمع صوت الأعماق..
والحزن يا سيدي أن أكتب فلا يقرأون..
وأصرخ فلا يسمعون..
وأودع أنفاسي فلا أرى منهم أحدا قد أتى لزيارتي بعدُ..
ثم أموت يا سيدي فيصلهم النبأ كالغرباء..
فيمصمصون شفاههم لبرهة قصيرة ثم يعودون لممارسة شتى ألوان حياتهم وكأن شيئا لم يكن..
وإن الغريب أحيانا يبكي غريبا..
أما هؤلاء فما زال صوت ضحكاتهم في مشهد جنازتي يقرع مسمعي بعدما أهالوا التراب على قلبي..
ثم أمضي ويمضون..
وما الغريب؟!..
وهل كان شيئا من دُفن؟!..
-#يليه..
وعذرا آخر يا سيدي..
إن كنت أكتب بكل هذه العفوية ولم أطوع الكلمات حتى تناسب ذوق من يتلقاها..
فما زلت ذلك المبعثر الذي يتوه في خضم كلمة..
ربما تموت على شفتي قبل أن أنطقها..
أو في سن قلمي قبل أن يكتبها..
وربما أجبن كثيرا فلا أقوى على كلمة..
انتهى..
النص تحت مقصلة النقد
بقلمي العابث..