إن مصر نجحت في إدارة أزمة جائحة فيروس كورونا بشكل جيد بفضل سياسات الإغلاق المبكر والتدابير الاحترازية التي اتبعتها إدارات الصحة العامة، فضلاً عن تطبيق إجراءات مالية ونقدية هامة، وتضاف تلك الجهود إلى إجراءات الإصلاح الاقتصادي السابقة التي ساهمت في تحسين المؤشرات الرئيسية للاقتصاد الكلي بصفة عامة وعززت من مرونة الاقتصاد الكلي. يعتبر استقرار الاقتصاد الكلى شرطا ضروريا من اجل التنمية والنمو . ومع ذلك فإن التوصيات المتداولة من المنظمات الدولية , حول الشروط التي تشكل إدارة جيدة للاقتصاد الكلى لتحقيق الاستقرار , ضيقة إلى حد بعيد . وفى الواقع , قد أدت في العديد من الدول النامية إلى نتائج على عكس ما أن مرجوا منها .
وقد أدت التطورات في العقد الأخير إلى تغيير التصورات السائدة في العالم عن طبيعة سياسات الاقتصاد الكلى المرغوب فيها , وقد أظهرت الأزمة المالية الآسيوية في نهاية التسعينات , وعملية الانهيار الاقتصادي في الأرجنتين في بداية هذا العقد إمكانية أن تكون الاستراتيجيات المالية ” الحكيمة ” ظاهريا قد أدت إلى احتمالية نشوب أزمات . وأدى التركيز الواضح الذى تضعه الأمم المتحدة والمجتمع الدولي على تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية والحاجة لتأمين تمويل آلاف لعمليات التنمية قد دلت على الحاجة إلى تغيير التركيز في أساليب إدارة الاقتصاد الكلى في الاقتصادات النامية المفتوحة على النحو التالي :
لابد من تطوير سياسات الاقتصاد الكلى ضمن إطار منسق , وبحيث تكون السياسات المالية والنقدية وسياسات سعر صرف العملة المحلية وإدارة حساب رأس المال في ميزان المدفوعات متجانسة مع بعضها البعض .
يجب أن يكون الأفق الزمنى متوسط المدى , وأن يكون موضوعا ضمن إطار يقدم الخطوط العريضة التي تنظم استراتيجيات الاقتصاد الكلى والأنفاق العام.
يجب أن تتحلى أهداف النمو الاقتصادي , واستقرار سبل العيش , وخلق فرص العمل بأهمية خاصة , وأن لا يتم التضحية بها من خلال التركيز الضيق على استقرار الاقتصاد الكلى والسيطرة على التضخم .
معدلات النمو الاقتصادي ليست فقط هي القضية المحورية , بل طريقة ومصادر هذا النمو . وفى الحقيقة فإن معدل نمو متوسط ومستدام , الذى يتضمن خلق فرص عمل وخفض مستويات الفقر يكون مفضلا على معدل نمو أعلى ولكن مبنى على عدم مساواة في الدخول ويحتوى إمكانية أآبر لمقاومة التقلبات والأزمات .
يجب أن يكون الهدف الأساسي لمعظم البلدان النامية هو خلق فرص عمل منتجة تؤدى إلى ” عمل لائق ” . وهذا يتطلب أآثر من مجرد وضع سياسات للاقتصاد الكلى , فالسياسات الصناعية التي تؤمن حوافز مدروسة بدقة من أجل تشجيع الاستثمار , والسياسات المالية والأنفاق العام آلاتهما يلعب دورا مهما فى هذا المجال .
إذ يجب الإقرار بأهمية الإنفاق العام وتوجيهه نحو القطاعات الحيوية لبناء رأس المال الاجتماعي في التعليم والصحة والترويح . يجب أن تتماشى السياسة النقدية مع السياسة المالية , وليس العكس , ويجب أن تكون آلا السياستين موجهة نحو أهداف اقتصادية حقيقية مثل خلق فرص عمل وحماية أسباب المعيشة وتوسيعها وتقليص رقعة الفقر .
ولهذا له انعكاسات على نوع الاستقلالية التي تمنح للمصرف المرازئ , وهى أيضا تعنى أن عملية استهداف التضخم بحد ذاتها لا يمكن أن تكون الهدف المحوري للسياسات النقدية. آل سياسات الاقتصاد الكلى يجب أن تعير اهتماما بالاعتبارات المساواة والأنصاف .
اتخذت خلال الفترة القريبة الماضية، عديد من الإصلاحات المالية اللازمة في مواجهة تداعيات انتشار الجائحة العالمية لفيروس كورونا كوفيد – 19، كإعادة تحديد ضريبة القيمة المضافة الأساسية، وإيقاف بدل غلاء المعيشة، الذي تحملت الدولة – أيدها الله – صرفه طوال 28 شهرا مضت منذ مطلع 2018، وهي التدابير التي كان لا بد من اتخاذها كأقل الإجراءات اللازمة في مواجهة تداعيات هذه الأزمة العالمية، التي ألقت بظلالها القاتمة على جميع الاقتصادات حول العالم دون استثناء، مستهدفة المحافظة على استقرار ومتانة الاقتصاد الوطني، وضمان استمرار ملاءة المالية العامة عند مستويات تقييم عالية، والمحافظة على الاحتياطيات العامة للدولة، وحماية الاقتصاد الوطني من ارتفاع العجز المالي وزيادة الدين الحكومي العام، الذي يشهد العالم اليوم تحوله إلى أزمات أخرى أكثر قساوة في كثير من الدول المتقدمة والصناعية، قبل الدول الأخرى الأقل تقدما التي تقف خلال الفترة الراهنة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين طلبا للعون والإنقاذ.
على الرغم مما قد يراه البعض أو يلمسه من بعض الانعكاسات غير المواتية خلال الأجل القصير، إلا أنها قياسا على كثير من الاعتبارات البالغة الأهمية، تظل أدنى بكثير من التداعيات الأكثر قساوة بما لا مجال للمقارنة معها التي حدثت في كثير من الاقتصادات حول العالم، في الوقت ذاته الذي ما زال اقتصادنا الوطني يمتلك كثيرا من الخيارات المتاحة للتعامل مع آثار انتشار هذه الجائحة العالمية، بل تجاوزتها إلى انتهاز ما يمكن اقتناصه من الفرص الاستثمارية المجدية حول العالم، لم يكن بالإمكان اقتناصها بتلك التكاليف في أوقات سابقة، وسرعان ما ستتحول – بمشيئة الله – في المستقبل القريب المنظور إلى ركائز داعمة للدخل.
من جانب آخر، يدرك المراقب المتبصر للتطورات الراهنة، أن التدابير الجاري تنفيذها وما قد يزمع العمل به إذا تطلب الأمر ذلك، أنها إجراءات لازمة ولا بد من اتخاذها منعا لما هو أكثر صعوبة وتعقيدا – لا قدر الله، في حال تم تجاهل المخاطر الكبيرة الماثلة أمام الاقتصاد العالمي دون استثناء، وأن حسن التصرف والتعامل مع أي من تلك المخاطر بعقل رشيد، واستباقه بأعلى درجات الاستعداد والتأهب اللازم والكافي على المستويات كافة، تؤكد التجارب التاريخية لجميع المجتمعات والاقتصادات، أن ذلك كان من أهم الإجراءات التي صنعت الفوارق الكبيرة بين دول العالم واقتصاداته، ولهذا يرى العالم المعاصر اليوم دولا تفوقت ولا تزال تحافظ على تفوقها الاقتصادي المرموق، ويرى أيضا دولا أخرى لا تزال تعيش عصورا متأخرة جدا على مختلف المستويات والأصعدة، والأصعب من كل ذلك أنها عالة على بقية الدول والمنظمات الدولية، لا ولم تنفك من الإدمان على الإعانات الدولية، ما إن تخرج من أزمة اقتصادية أو مالية إلا سرعان ما تدخل في أزمة أشد سوءا من سابقتها.
إنها التطورات الأكثر إيلاما لجميع الاقتصادات حول العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد تكون بالنسبة إلى بعض الاقتصادات الأكثر ألما منذ الكساد الكبير، التي استدعت حكومات العالم إلى اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة تداعيات هذه الأزمة، مستندة كل دولة في أرضية إجراءاتها المتخذة إلى طبيعة اقتصادها بالدرجة الأولى، وإلى الآثار والتداعيات التي اصطدمت بها، ووفقا لطبيعة اقتصادنا الوطني الذي لم يصل بعد إلى هدفه الاستراتيجي المنشود بالاستقلال التام عن النفط، ونظرا للاعتماد الكبير على الحكومة والمالية العامة في الدفع بالنمو الاقتصادي، وعدم وصول القطاع الخاص بعد إلى دوره المستهدف له، رأت المالية العامة أن الخيارات الأنسب للمحافظة على احتياطياتها واستقرارها المالي، تنطلق من خفض حجم المصروفات من جانب، والعمل على رفع الإيرادات غير النفطية من جانب آخر، وهي الخيارات المرحلية المتوافقة مع متطلبات مواجهة تداعيات انتشار هذه الجائحة العالمية، التي لم يظهر لها حتى تاريخه أي أفق لنهايتها،
وهي أيضا الخيارات التي رغم آثارها على الجميع دون استثناء، إلا أنها تعد أدنى ألما بدرجة كبيرة مقارنة بالنهاية الحتمية للاستمرار على السياسات نفسها المعتادة سابقا، خلال فترات زمنية خلت من مثل الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة، التي قد تصل بنا إلى نهايات غير محمودة على الإطلاق، تتجاوز آلامها كثيرا أي آلام مرحلية قد يشهدها الاقتصاد الوطني والمجتمع خلال الأجلين القصير والمتوسط، ويؤمل بمشيئة الله تعالى أن ننجح جميعا في تجاوزها بأقل الخسائر والتكاليف، وهو الأمر الذي استقر الوعي به لدى أغلب شرائح المجتمع السعودي بحمد الله، كدليل ساطع على قوة الانتماء والوطنية والتضامن، وكإحدى أهم ركائز القوة المجتمعية التي طالما تميز بها مجتمعنا المخلص لدينه وقيادته ووطنه.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان