حجم كرة القدم لا يزيد عن بضعة سنتمترات في القطر وبضعة سنتيمترات في المحيط .. و مع ذلك حجمها في حياتنا أكبر من حجم الكرة الأرضية ..
لم يشهد انتصار أكتوبر الحفاوة التي شهدتها مبارة الجزائر و كاننا فتحنا العالم أو عبرنا الفضاء إلى القمر .
هل أصبحنا نحب اللعب إلى هذه الدرجة !؟ .. إلى درجة الجنون و إطلاق الصواريخ و البمب و البالونات و الرصاص و الرقص في الشوارع إلى مطلع الفجر ..و إذا كانت عندنا كل هذه الطاقة و الحماس و الهمة فلماذا لا تظهر في العمل الجاد !
لماذا لا تظهر في بناء أو نهضة أو فكر أو فن أو ثقافةأو اختراع أو اكتشاف ..؟ لماذا لا تظهر إلا في اللعب و اللهو ؟
و إذا تجمهرنا على فن فإنه دائماً من نفس النوع : فن لهو و تفاريح و مواكب و أعياد و كل أيامنا بحمد الله أعياد و إجازات .. هل تحولنا إلى مخلوقات تعيش بسطح وجودها و بقشرة جسمها .. !؟
إن ما رأيته ليلة المباراة في الشوارع لم يكن انتصارا بل انفجارا ..
لقد كانت أحشاؤنا تخرج لمجرد هدف في الشبكة .. هذه حالة نفسية من اختصاص دكتور شعلان و الدكتور أحمد عكاشة
..
إن ما يحدث هو اختلال في جهاز التقييم على مستوى الأمة و لا أتهم مصر وحدها و إنما نفس الظاهرة رأيتها في انجلترا و رأيتها في ايطاليا و رأيتها في أسبانيا ( حفاوة من نوع اخر حول ثيران المصارعين )
..
و لكن لم أرى هذا في اليابان و لم أره في ألمانيا .. .. فقد تجمع الملايين حول سور برلين .. ليس من أجل هدف كروي .. و لكن من أجل قيمة اسمها الحرية .. و رقصوا للفجر.. و غنوا و هتفوا .. لألمانيا العظمى التى ولدت من مخاض القهر و من ليل العذاب .. و بنفس الروح التي تجمع ملايين اليابانيين على أنقاض هيروشيما ليضعوا اليد على اليد في ميثاق عمل و ميثاق عرق و ميثاق سهر .. و قد فعلوها و صنعوا قنبلة اقتصادية .. و فجروا ثورة انتاجية .. و قادوا مظاهرة علمية بهرت العالم .. و ردوا على أمريكا بتحد أكبر و أخطر ..
هذه أمم مرشحة لقيادة التاريخ في السنوات المقبلة ..
و مع هذا فهي في وقت اللعب تلعب .. و بإجادة أكثر من لعبنا .. و في أولمبياد سول فازت ألمانيا الشرقية بمعظم الميداليات الذهبية و بهرت المشاهديين بلباقتهم العالية و مهاراتهم العظيمة .. و قدمت كوريا الجنوبية في سول – و هي أمة آسيوية من أمم العالم الثالث و محتلة ..
نموذجا فريدا للتنظيم العلمي و للعرض الفني المبهر .. إن اللعب مطلوب و لكن على ألا يتجاوز مكانه في سلم الأولويات .. فهو ساعة في يوم إجازة و تسبقه ستة أيام عمل تحتاج إلى حماس ..
مضاعف بمقدار ست مرات .. و بهذا تكون النفس سوية تعرف لكل شئ مقداره ..
أما الشعب الذي ينفق أحشاءه و همته و حماسه في هدف كروي ثم يعود إلى بيته جثة خاوية جوفاء ليس فيها همة لشئ .. فهو شعب يحتاج إلى تحليل نفسي ..
هل يأس من عمل شئ جاد ؟
هل أبواب التفوق مغلقة في جميع المياديين و لم تبق إلا الملاعب ؟؟
هل تركيز الإعلام على مباريات الكرة و أبطالها هو المسئول ؟
هل هو خطأ في التربية و التعليم ؟
هل هو خطأ سياسي تنظيمي ؟
لو صح هذا التفكير خاطئ لأن الدولة في حاجة إلى العمل و الإنتاج و الإجادة و الاختراع و إلى الحماس الآخر الصخي الذي تضيعه بفتح الباب على مصاريعه لهذا اللعب .. لن تستطيع الدولة أن تبني اقتصادها بأهداف كروية .. و إذا كسبنا الأوليمبي و خسرن معركنا مع القمح و القطن و الأرز .. فلن نصنع شيئا ذا بال .. و النتيجة أن يتفجر الشارع من الجوع رغم جميع المباريات الفائزة ..
إن جدول الأولويات في بلادنا مختل .. و مقلوب على رأسه .. اللعب في أول القائمة .. و الجد في آخرها .. هذا إن وجد له مكانا .. و الاستراتيجية الغالبة على نظامنا هي استراتيجية التفاريح ..
و السعادة في قاموسنا انفجار و فرح وحشي و تهريج .. و سوف يوافقني علماء النفس على أن هذا النوع من الفرح هو تعبير عن الكبت و الحرمان و لا يمت إلى السعادة بسبب و قد شاهدنا الشارع ينفجر ثم يهمد ..
و الفريق الجزائري الذي انفجر على طريقته راح يضرب الناس و يفقأ عيونهم ..
لقد رفع أجدادنا أهرامات بدون حديد و بدون مسلح و بقيت على الزمان خمسة آلاف سنة .. و نحن نرفع عمارا من الأسمنت و الخرسانة .. و المسلح لتقع منهارة بعد شهورا من بنائها ..
و الفرق الوحيد هو هذا الشئ الذي نتحدث عنه ..
روح الجد عندهم و روح اللعب و العبث عندنا ..
إن العمر قصير .. و الانسان لم يولد ليعيش عبثا و يموت عبثا .. و ما نعانيه من أموال يدعو لأن نعمل شيئا في حياتنا .. شيئا في الذوق العام .. و في الفهم و في الوعي و في الإدراك يجب أن يغير ..
و علينا أن نجدول أولوياتنا من جديد بحيث يكون .. العمل الجاد في البند الأول و اللعب في البند الأخير ..
..