التفت العقل المسلم بذكاء شديد منذ بداية ايام الاسلام الاولى الى اهمية العمل الخيري واستوعب المقاصد الشرعية والعملية للمنح والعطاء واهمية استمرار تدفق الخير لتحقيق الامن الاجتماعي والاستقرار في المجتمع على الاصعدة كافة بما يضمن سلامة البناء وتحقيق التوازن ونثر بذور الخير في كافة الارجاء وبما يضمن المساهمة الجادة والفاعلة في الارتقاء بالمجتمع وتلبية احتياجاته ومتطلباته.
في سبيل ذلك وجدنا مجموعة من القواعد الذهبية تحكم حركة الوقف والواقفين ضمنت تحقيق النتائج المذهلة والرائعة للعمل الخيري والتى سجلتها صفحات التاريخ..من ذلك انه كان يتم تحرى موطن النفع فيما يوقفه الفرد اوالجماعة من مال فإن كان البلد يُعاني أهله الجوع والعطش فإن الوقف ينبغي أن يكون لإنقاذ تلك الأنفس من الهلاك من الجوع أو العطش وأما إن كان الواقِفُ في أرض أهلها ميسوري الحال ولكن التعليم عندهم ليس على ما يرام فالأفضل عندها أن يكون الوقف لبناء دور العلم والمساجد لتعليم أبنائهم وتفقيههم في أمور دينهم.وهكذا فالواقف يعرف من أي أبواب الخير يدخل.
والقاعدة الذهبية الاخرى ان أفضل الأوقاف وأحبها إلى الله هو كل ما عم نفعه لعموم الناس في كل زمان ومكان كوقف الماء وبناء المساجد ودور العلم وطلبة العلم والأقارب والفقراء والبساتين التي يطعم منها الفقراء والمساكين.
وكان التركيز دائما على ما فيه إحياء النفوس والقلوب وهذه مسالة تقديرها يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأموالوالأحوال والأشخاص.
ويكفى المرء ان يطالع بشغف وحب الحُجَج الوقفية التي لا تزال محفوظة في هيئات الاوقاف سيجد نماذج كثيرة مبهرة وعجيبة وستشعره بالفخر ايضا لتلك العقول الخيرة التقية المدركة والمستوعبة لاهمية الوقف ودوره الكبير وأثره البالغ في إشاعة معانى البرِّ ومشاعر الخير والعواطف الإنسانية وقِيَم الرحمة والإحسان وميادين التكافل الاجتماعي والحرص على كل المثل العليا التي جاء بها الإسلام.
الاقبال على الوقف كان عملية ذاتية محضة من أهل الخير والثراء من المسلمين وكان الدافع القوي والرئيسي هوحب الخير لكل من حولهم والرغبة في الاصلاح والتطوير والارتقاء بالمجتمع ليكون في ابهى صورة دون انتظار لثناء او شكر من احد..وكانت الرحمة التي قذفها الإيمان في قلوبهم والرغبة في مثوبة الله هي الوقود الحيوي والمحرك نحو الفعل الصادق الى جانب الرغبة في ألا ينقطع عملهم بعد موتهم ولذلك كانوا يوقفون أموالهم كلها أو بعضها على إطعام الجائع وسقاية الظمآن وكسوة العريان وإعانة المحروم ومداواة المرضى وإيواء المُشرَّدين وكفالة الأرامل والايتام وبناء المدارس والمعاهد والجامعات التي تُوفر المساكن لطلابها والمستشفيات الطبية والتعليمية ومؤسسات الرعاية الصحية والسقايات والفنادق وعلى كل غرض إنساني شريف بل أشركوا في البر الحيوان مع الإنسان.
وقد امكن حصر اكثر من ستين مظهرا او منفذا للاعمال الخيرية تحت مظلة الاوقاف بدءا من اطعام الطعا وكسوة العريان وايواء المشردين وبناء المساجد والمدارس والجامعات وحتى البر والاحسان باهل الكتاب وغيرهم من المحتاجين ورعاية الامومة ورعاية المسنين ومن هم في سن الشيخوخة.
وهناك مصارف بديعة غريبة وعجيبة ضربت لها الاوقاف ولا يزال البعض يستدل بها على عظمة الحضارة الاسلامية وعدها الخبراء والمختصون دليلا دامغا على نُبْل النفوس ويقظة الضمائر وعلو الإنسانية بل سلطان الدين عليهم.
منها على سبيل المثال : وقف الأواني المكسورةوهو وقف تُشترى منه الاواني اذا كسرها الخادم وخاف غضب مخدومه .
ووقف الكلاب الضالَّة يُنفق من رَيعه على إطعام الكلاب التي ليس لها صاحب.
و وقف إعارة الحُليِّ في الأعراس حيث يستعير الفقراء منه ما يلزمهم في أفراحهم وأعراسهم ثم يعيدونها حتي يكتمل الشعور بالفرح وتنجبر الخواطر المكسورة.
ووقف الزوجات الغاضبات تذهب إليه الزوجة التي يقع بينها وبين زوجها نفور وتظل فيه آكلة شاربة إلى أن يذهب ما بينها وبين زوجها من جفاء وتصفو النفوس فتعود إلى بيت الزوجية من جديد.
– وقف مؤنس المرضى والغرباء ووقف الإيحاء إلى المريض بالشفاء. ووقف القطط التي لا مأوى لها والتي لا تجد مَن يطعمها ولا سيما المصابة بالعمى منها اوالموجودة في بيت القطط.
لو نظرنا الى حاجيات وضرورات مجتمعنا الان سنجد الكثير والكثير من الامور التى تحتاج الى هبة سريعة ونجدة ومساندة للجهود الرسمية حتى يتم البناء ويشعر الجميع بالمشاركة الحيوية نحتاج الى دعم قوي وفوري في المستشفيات والوحدات العلاجية باسعار مناسبة لشرائح عريضة في المجتمع نحتاج الى فصول دراسية في اماكن ومدارس كاملة في مناطق اخرى..هناك خدمات الصرف الصحي ومياة الشرب النظيفة تحتاج وتحتاج.. ما اكثر الغارمين والغارمات وما اكثر الفقراء والمحتاجين والمساكين ومن لايسالون الناس الحافا..نحتاج الى مساكن للطلبة خاصة بالقرب من الجامعات لتخفيف المعاناة عنهم اقتصاديا وصحيا وبدنيا ومساعدتهم في تحصيل العلم وهذه مسالة في غاية الاهمية نظرا للضغوط الشديدة على المدن الجامعية والاعداد الغفيرة من الطلاب ومعظمهم من الطبقات الفقيرة ولم يعد يجدى معها محاولات للاستيعاب وتخفيف حدة الازمة..لابد من تدخل الاوقاف والعمل الخيري على الخط وبقوة ..
ويحضرني رسالة طريفة وقوية ذات مغزى بعث بها عميد الادب العربي د.طه حسين في العام 1954 الى المرحوم الشيخ حسن الباقوري وكان وزيرا للاوقاف اذ لجأ طالبان الى العميد يطلبان المساعدة في حياتهما الجامعية قال في رسالته للوزير:
«ما أكثر من أصد عنك من أصحاب الحاجات لأن حولك منهم أكثر مما تطيق موارد الوزارة ولكن أمر هذين الطالبين اللذين لا أعرفهما في حاجة ظاهرة إلى رعايتك..فأنا أرفعه إليك في طلبهما هذا وما أشك في أنك ستشمل هذين البائسين بفضل من عطفك فهما أهل له ولست في حاجة إلى أن أذكرك بقول الشاعر القديم (أحسن جواب العيال إنهمو قد أرسلوني إليك وانتظروا).. فأنت خير من يسمع وخير من يجيب ولك مني أصدق التحية وأخلص الود وإلى لقاء قريب إن شاء الله».
فرد الباقوري على الدكتور طه حسين قائلا:«سيدي الأستاذ العميد عفا الله عنك لم تصد عني طلابك الذين يريدون وزارة الأوقاف فيما يريده أصحاب الحاجة من طلاب الجامعات وغير الجامعات ولم تأخذني بإحساسك الذكي المرهف وشعورك اليقظ النبيل فتشفق علي من كثرتهم وتزاحمهم وتشفق على موارد الوزارة أن تضيق بهم».«في الحق إنهم لكثير وإن موارد الوزارة لأقل من أن تتسع للقليل منهم ولكن لا بأس فإنه إن لم يسعهم المال وسعتهم كلمة طيبة ولقاء يأنس به المواطن إلي مواطنه والأب إلى أبنائه وإنك لتذكر الحديث الشريف (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم) فأنا من ذلك على إحدى الحسنيين ثم لا أحرم مع هذا رسالة كريمة كتلك التي حملها إلي طالباك هذان نفحة من نفحات الأدب الرفيع تحيا عليها النفوس المتعبة ويتراوح لها الخاطر المكدود».
«ومن يدري فلعله لا يعدم طلابك على كثرتهم فضلة مال إن لم تسد مفاقرهم فرجت كربة ورفعت ضائقة».
امال كثيرة مرجوة ومنتظرة من اهل الخير لكل خير..
والله المستعان.