اهتم الصوفية بالنفس الإنسانية باعتبارها العقبة الكؤود فى سبيل الوصول إلى الله سبحانه، وهم فى دراستهم لها وتحليلها وكشف عيوبها ووصف العلاج الناجع لها يَصدرون عن تجربة ذاتية فتتجلّى لهم النفوس بوضوح أمام بصيرتهم وعقولهم، فهم يعتمدون على مراقبة النفس كى يدركوا جوهرها وكوامنها الدفينة لمعرفة وظائفها وصفاتها وآفاتها حيث أنها حجاب بين العبد وإخلاص عبادته، ولأنها أساس الخُلق ومنبعه، فإذا صلحت النفس صلح الخُلق وحسُن، والعكس صحيح، فهم إن صفت نفوسهم خلصت طاعاتهم وحسنت أخلاقهم، وكذلك العكس صحيح.
لذلك فالنفس أكبر الحجب بين العبد وربه، واُعتُبِر التصوف علم النفس الإسلامِى، ونُظر إلى الصوفية على أنهم علماء النفس فى الدرجة الأولى، وقد قيل التصوف خُلق فمن زاد عليك فى الخُلق فقد زاد عليك فى التصوف، فأخلاق الصوفية هى أخلاق الخاصة، تتزكّى بها نفوسهم وترقى بها شمائلهم، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم “إنّما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق” فكانت بعثته صلى الله عليه وسلم مرتبطة بالسموّ الأخلاقِى، وعندما سُئل صلى الله عليه وسلم عن الدين كانت إجابته “حُسْن الخُلق”، وقال صلى الله عليه وسلم “إن من أحبّكم إلىّ وأقربكم منِّى مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن من أبغضكم إلىّ وأبعدكم منِّى مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا ومن المتفيهقون يا رسول الله ؟ قال: المتكبّرون”، لذا اعتَبر الصوفية الأخلاق من أهم ما يحقق المقاصد الشرعية وربطوا علمهم بها وأكثروا التآليف فى البحث فى جوانب الأخلاق والنفس والمقامات والمنجيات والمهلكات.
العُبّاد سلكوا بنور الإسلام فأكثروا من الأعمال ، والزُهّاد سلكوا بنور الإيمان فجمعوا بين العمل والزهد، أمّا الصوفية فجمعوا بين الإسلام والإيمان والإحسان ، ولمّا تأصّل ذلك فى بواطنهم انصلح القلب وابيَضّ وتنوّر وانعكس نوره على النفس لكونه ذِى وجه إلى النفس وآخر إلى الروح، وللنفس وجهٌ إلى القلب وآخر إلى الطبع والغريزة، فإذا صفى القلبُ جذب النفسَ كُلّيّة إليه وخلّصها من صلتها بالطبع والغريزة، وحينئذ تلتقِى الروح والقلب والنفس فى لمعان وبريق واحد وتستمد كلها من مُمدّ الأرواح فتزداد إشراقاً وتنوّراً وطمأنينةً وسكينة وتختفِى آفات النفوس وآثار الطبع والغرائز فلتجأ النفس إلى حسن الأخلاق باعتبارها مصدراً لفضائلها وصفاتها، ومن هنا سُمِّى الأبدال أبدالاً لتبدل صفاتهم.
كشف رجال الطريق فى أقوالهم ومؤلفاتهم عن جوانب الأخلاق فيما يختص بالله سبحانه من استعظام فعله وتفضيل ما اختاره وحَمْدِهِ وشكره واستصغار أفعالنا بجانب أفعاله، والصبر على قضائه والرضى بأمره، وكذا فيما يتصل بالإنسان من كفّ الأذى واحتمال الصعاب وبسط الوجه وتحمّل أذى الآخرين وأداء الحقوق وتوقير المستحقين ورحمة المستضعفين والعفو وكظم الغيظ والإحسان لمن أساء ولمن لم يسيء، والوُدّ مع أهل الجفاء، والحلم عند الغضب، والشجاعة فى مواطنها، والعون عند النائبات، وحسن الصحبة، والخدمة، والسهولة فى العشرة، وبرّ الآخرين والحنوّ عليهم ولو كانوا قساة، والتواضع، والكرم، ونبذ الخلاف، والإيثار.
سلوك التصوف قائم على العلاقة بين الشيخ المرشد والمريد السالك، ويهدف إلى تحرير الفرد من مخاوفه ومن مشاعر الخطيئة ومساعدته على تقبّل ذاته وبيئته، وإشباع حاجاته فى إطار الشرع والدين، ومن ثَمّ تحقيق أكبر قدر من الأمن النفسِى والطمئنينة وتحقيق سعادة الداريْن.
يهدف المرشد إلى تنمية استبصار المريد بعلاقته بالكون وبخالقه وبالآخرين لتحقيق التوازن النفسِى والإجتماعِى للفرد وتطهير النفس وتزكيتها بالعبادات والنوافل وإبعادها عن الرغبات المحرّمة
واللا – أخلاقية وتدعيم الخصال السويّة المتّفقة مع الشرع والدين، أى إجراء تخلية وتحلية للنفس فيصل العبد للتجلِّى كما وصف ذلك شيخنا إسماعيل صادق العدوِى، التخلية من الصفات المذمومة وتحليتها بالصفات الحميدة المرغوبة وتنمية النفس اللوّامة المُمثلة للضمير كسُلطة داخليّة رقيبة على سلوك العبد ، وتحقيق التوازن بين الجانبيْن المادى والروحِى فى ضوء مُعتقد إيجابِى وصولاً إلى الشخصية السويّة التى تتمتّع بالصحة النفسية والسلام الداخلِى، ومساعدة الفرد على التحكّم فى دوافعه وإنفعالاته وترويض أهواء نفسه وشهواتها.
على المرشد أن يكون قدوة حسنة فى الأقوال والأفعال مقيماً للشعائر مُلمّاً بالقرآن والسنّة المطهّرة، قال الفاروق “أُدعو إلى الله بغير كلام، قالوا كيف؟ قال بأعمالكم وأحوالكم”، ويجب على المرشد أن يكون متفائلاً متسامحاً مستمعاً جيداً حلو اللسان كاتماً للأسرار وأن يعمل على تطهير الظاهر والباطن معاً ويعتمد على التوجيه والإستبصار.
لكى يضطلع التصوف بمهمة الإسهام فى القيم والأخلاق الإنسانية يلزم له أن يبنِى ويجدّد ذاته طبقاً لقواعده ومصادره وهى الكتاب والسنة والمصادر المنبثقة عنهما وأن يشيّد تجديده على العلم.
والله يقول الحق وهو يهدِى السبيل.