إن التنامي السريع للمعارف يتطلب من خريجي المدارس، على العموم، القدرة على الوصول إلى المعلومات واستخدامها لا تذكّرها وحسب. ويعني ذلك أن ثمة حاجة تدعو الخرّيجين الآن إلى أن يكونوا متعلّمين مستقلّين طيلة العمر. وعلى هذا الأساس، النظم التعليمية الأنسب هي التي يرشد فيها المدرسون التلاميذ إلى التصدي للمشاكل بروح بناءة بوصفهم مشاركين، ومواطنين، ومتعلمين طيلة العمر- وعلى الأخص في ما يتعلق بتهيئتهم للعمل في مجتمعات تتميّز بالاختلاف حول القيم.
هناك أثر آخر لا صلة له بالموضوع للتأكيد على المواضيع الفنية التقنية. فقد ترتب على ذلك صرف الانتباه عن العلوم الاجتماعية والإنسانيات، بل الانتقاص من قيمتها، مع أنها هي التي تُناقش فيها مباشرة القضايا الجوهرية المتعلقة بالهوية، والمواطنة، والتعددية. (انظر المقابلة مع كرامي-عكاري للحصول على وصف تفصيلي لمشروع “تمام”، وهو مبادرة إصلاحية محددة؛ وكذلك المقابلة مع الخضرا حول الحاجة لتعليم الإنسانيات بصورة أوسع). ومع تضاؤل التركيز على مثل هذه المواضيع، في المنهاج المدرسي، تقل المصادر المتوفّرة لدى المربين، فيضطرون (عن طريق نظام الامتحانات في الغالب) إلى التعليم عن طريق الحفظ عن ظهر قلب.
وغالباً ما تنبع هاتان المشكلتان معاً، وهما اعتبار العلوم والرياضيات منظومة من المعلومات التي يتوجب نقلها إلى التلاميذ، وإهمال المواضيع الأخرى، من مصدر مشترك واحد هو محاولة عن حسن نية لمواكبة المعاصرة، إلا أن التأكيد المخطئ على ما تعنيه الوقائع المعاصرة يستحق بعض الانتباه.
لقد ركّز الإصلاح في العالم العربي في الماضي على مضمون المناهج، وذلك أمر مهم بالفعل، لكن هذه ليست القضية الوحيدة. فالأساس هو “كيفية” تعليم هذه المواضيع (أي أسلوب التعليم/ البيداغوجيا)، والشخص الذي يتولّى تدريسها (المدرّس)، وهذا ما يؤثّر كثيراً على ما يجري تعلُّمه. والواقع أن ذلك هو بالتحديد العنصر الذي يوحّد جميع أجزاء النظام التعليمي على امتداد حزمة الموضوعات الأكاديمية التي تترواح بين الأدب والكيمياء. وبدلاً من محاولة تلقيم الإجابات من القمة، فإن على نظام التعليم العربي أن يسمح للمدرّس أن يرشد التلاميذ إلى كيفية معالجة المشاكل بروح إيجابية بوصفهم مشاركين، ومواطنين، ومتعلمين طيلة العمر. ويتوجب عليهم أن يفعلوا ذلك بشكل خاص حتى في المجتمعات التي تتسم على نحو متزايد بالاختلاف حول بعض القيم الجوهرية (انظر المقابلة مع كرامي-عكاري كمحاولة لمعالجة الحاجة إلى تنمية مهارات المواطنة
المقاربة الأمثل هي التي تزاوج بين مصفوفة من المقاربات المترابطة في التجربة التعليمية، وتتابعها في الوقت نفسه: تَعَلُّم التعلُّم، والتعلم من أجل التمكين الفردي، وتعلُّم حل المشاكل مع الآخرين، وتعلّم القيم. إن تقنيات التقويم المطبقة الآن تهدف إلى رصد ما يجري في المدارس والسيطرة عليه، وذلك عبر تعزيز ميول هذه النظم إلى أن تتحوّل إلى هيكلة للأوامر الصادرة من القمة إلى القاعدة حول تلقين الحقائق. والمقاربة الحالية تنحرف بطاقات المدرّس وتحوّلها من رعاية التعلّم وتشجيعه إلى غرس مادة محددة في الذهن. وينبغي، بدلاً من ذلك، إعادة النظر في مفهوم الاختبار للتأكيد على ما هو أبعد من مجرد التمكّن من مادة التدريس. كما يجب تدريب المدرّسين ليكونوا وكلاء لا وسطاء، بل أن يكونوا أفضل من ذلك، أي من الميسّرين، لمساعدة الطلاب والتلاميذ على التعلّم وعلى تحديد وتذليل التحديات التي تواجه سيرورة التعلم. ويتعيّن على مقاربات التعليم والاختبار الجديدة المناسبة أن تجدد التركيز على النوعية والجودة.
علم الأعصاب.
منذ تسعينات القرن الماضي، كان الخبراء يحاولون الربط بين علم الأعصاب والتعليم، ولكن فقط في العقد الأخير أو نحو ذلك كان هناك توافق في الآراء على أن علم الأعصاب لديه مكانة بارزة في التعليم. في الواقع، واستنادا إلى أبحاث علم الأعصاب، يقول بعض العلماء إن الطريقة التي يتعلم بها المخ ويعالج المعلومات يجب أن تكون نموذجا لإصلاح التعليم – وخاصة لتعزيز الإلمام بالقراءة والكتابة، ولكن أيضا التعليم ككل وتنمية المدارك بشكل أوسع.
تعتمد القراءة على قدرة الجهاز البصري على التعرف على مجموعات من الأشياء الصغيرة، مثل الحروف، كأنماط. تخبرنا العلوم المعرفية أن الناس يبدأون التعلم من خلال قطع صغيرة، مثل حرف ما، ثم يربطون هذه الحروف ببعضها لتشكل كلمات حتى يتعرف عليها المخ بنفس الطريقة التي يتعرف بها على الوجوه. وحالما يتحقق ذلك، يمكن للطلاب القراءة؛ وعندها فقط يمكنهم أن يفهموا ويتعلموا.
وتساعد الأدوات التي يقدمها علم الأعصاب على تحسين فهمنا للصلات بين السمع، ومعالجة الأصوات اللغوية، وتطوير الإلمام بالقراءة والكتابة – وهذا أمر ضروري بشكل متزايد لضمان أن يتعلم الأطفال القراءة في كل مكان. لقد أثبتت أدوات تعليم القراءة والكتابة المبنية على هذا البحث الجديد فعاليتها، خاصة للأطفال ذوي الدخل المنخفض. في الواقع، يمكن الاستفادة من المعلومات الناشئة من مجال علم الأعصاب للمساعدة في ضمان أن جميع الصغار يتعلمون القراءة في السن المناسبة.
الدورات الموسعة المفتوحة عبر الإنترنت لديها إمكانات مذهلة.
على الرغم من عدم وجود شيء جديد على وجه الخصوص في هذه التكنولوجيا (حيث تقدم كثير من الجامعات دورات عبر الإنترنت منذ عقود باستخدام تكنولوجيا مشابهة، مثل المحاضرات عبر دوائر الفيديو)، فقد حدث تحول كبير من حيث النطاق. اعتقد كثير من المؤيدين المتحمسين لهذه الدورات في البداية أنها ستحل محل النموذج التقليدي للتعليم العالي، وتوفر بديلا فعالا من حيث التكلفة، و “توسع نطاق” التعليم العالي.
وعلى الرغم من أن هذا لم يحدث، لا تزال هذه الدورات تنطوي على الكثير من الإمكانات. على سبيل المثال، توفر أكاديمية خان تعليما مجانيا على مستوى عالمي لأي شخص في أي مكان، وقد استفاد أكثر من 100 مليون شخص من دورات دراسية بحوالي 40 لغة في موضوعات تتراوح من الرياضيات وبرمجة الكمبيوتر إلى قواعد اللغة وتاريخ الفن.
تُقدم الدورات الموسعة المفتوحة عبر الإنترنت التي توفرها جامعات مثل كورسيرا مجموعة متنوعة من الدورات التي تجتذب حاليا ما يربو على 23 مليون طالب سنويا، ارتفاعا من قرابة 18 مليونا عندما بدأت قبل عشر سنوات. كما تستخدم هذه الدورات لتوفير التدريب للشركات بطريقة فعالة من حيث التكلفة. وهذا تطور هائل لخبراء التعليم الذين يتطلعون إلى التوسع في إمكانية الحصول على التعليم بالعالم النامي. في الواقع، تشير البحوث إلى أن الدورات الموسعة المفتوحة عبر الإنترنت توفر فرصا لمن يعانون من إمكانية محدودية للحصول على التعليم. وحري بالبلدان النامية أن تنتبه لذلك وتستكشف سبل توسيع نطاق الوصول إلى هذه الأداة لصالح شعوبها.
على الرغم من أن قواعد البيانات المتسلسلة (بلوك تشين) لا تستخدم على نطاق واسع في مجال التعليم فسوف يحدث ذلك قريبا. واليوم يمكن إجراء معاملاتنا المصرفية، والتسوق، والاتصالات – وأي شيء آخر تقريبا – عبر الإنترنت. يتم تسجيل هذه العمليات الإلكترونية وتقوم تقنية بلوك تشين بجمع تلك البيانات في مجموعات مشفرة لا يمكن تغييرها أو تعديلها و تضعها في شبكة عالمية من الفروع أو أجهزة الكمبيوتر التي تم توزيعها (المستخدمون).
هذه التكنولوجيا لديها القدرة على ابتكار طريقة لمشاركة البيانات بين مقدمي الخدمات التعليمية والمستخدمين، وضمان سلامة البيانات وقابلية التشغيل البيني بطريقة ستفيد بالتأكيد قطاع التعليم ككل. تخلق تقنية بلوك تشين فرصا للامركزية؛ وتزيد من الشفافية والسرعة والفاعلية؛ وتزيل الوسطاء غير الضروريين؛ وتخفض التكاليف وتسهل عمليات المراجعة. وتستخدم المنظمات غير الحكومية بالفعل حلول بلوك تشين لزيادة فعالية المساعدة من خلال تطوير منصات تتيح للناس في أي مكان من العالم بناء هوية آمنة لهم. فالمهاجرون، على سبيل المثال، لديهم مهارات أو مؤهلات تعليمية يرغبون في الاعتراف بها في بلدانهم الجديدة، حيث أن هذه الهوية الآمنة وغير القابلة للتلف تساعد الفقراء وغيرهم من الأشخاص الضعفاء على المشاركة بقدر أكبر من المساواة في الاقتصاد العالمي.
عواقب النمو السكاني السلبي.
مع انخفاض عدد السكان في بعض البلدان بسبب تراجع معدل الخصوبة، فإن عددا متزايدا من الشباب الأفضل تعليما يهاجرون إلى المدن. ومع ذلك، فإن عدد طلاب المدارس الابتدائية آخذ في التناقص، وفي بلدان كثيرة، يتم إغلاق المدارس ودمجها. في المناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة، ينخفض عدد الأطفال أكثر، ويزيد دمج المدارس من طول المسافة بين المنزل والمدرسة للكثير من الأطفال.
ويؤثر هذا بشكل غير متناسب على السكان الضعفاء، مع احتمال تقويض فرص الحصول العادل على التعليم. ومن باب المفارقة أنه مع وجود عدد أقل من الطلاب في النظام، هناك خطر من تراجع الجودة بشكل عام أيضا، لأن متطلبات النظام ستكون أقل عند قبول الطلاب الجدد. ثانيا، في سوق عمل نشطة، سوف يحتاج العمال الأكبر سنا إلى تدريب سريع على المهارات الجديدة التي تتطلبها المنافسة العالمية. وهذا يعني أن البلدان ذات النمو السكاني السلبي ستحتاج إلى تحديد هياكل حوافز جديدة للحفاظ على التزام الطلاب والمجتمع بالتعليم. وربما أن الوقت قد حان لإعادة إنتاج تعليم متعدد الصفوف الدراسية للتعامل مع الأعداد المتزايدة من المدارس الصغيرة.
تواجه أنظمة التعليم، لا سيما في البلدان النامية، عددا من التحديات – أكثرها إلحاحا هو تحسين جودة التعلم على جميع المستويات. وعلى الرغم من وجود مسارات مختلفة لتحقيق هذا الهدف، فإننا على ثقة من أن الموضوعات الأربعة التي بحثناها هنا هي نقطة رائعة للانطلاق.
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان