البيئة التي يعيش فيها الإنسان، لها دور أساسي في تکوين شخصيته الذاتيّة، فقد تجعل الإنسان عاجزاً أمام المصاعب والمشاکل، وقد تجعله قادراً علی التأثير في البيئة وفي الحقيقة تعّد البيئة مدرسة حقيقة لمبدع اسمه عبد الرحمن الشرقاوي —
الذي ولد في قرية الدلاتون مرکز شبين الکوم محافظة المنوفية في 10 نوفمبرعام1920 م.وتلقی تعليمه بالمدرسة الأولية بالبلدة وحفظ أجزاء القرآن الکريم علی يد شيخ القرية وفقيهها، وقبل ذهابه إلی المدرسة الابتدائيّة، کان لايزال يستحم في الترعة الصغيرة بل کان يمرغ جسده علی التراب ويکسو وجهه ورأسه بالطين ليبدو شکل العفريت مع الصغار أمثاله سواء من الأولاد أو البنات... ثم يقفزون إلی الترعة الصغيرة في الماءِ المثقل بالطمي.»
اقول كانت البيئة هى الأكبر تأثيرا على مبدعنا ..تصنع وتخلق الفکر .هذا الفکر الذي يبقی في أذهان الأجيال القادمة، کما نری هذا التاثير في حياة المفكر والشاعر الكبير عبد الرّحمن الشّرقاوي فيما يلي:
«فقد کان کلّ إخوته الذّين يکبّرونه يتلقون تعليمهم بالقاهرة، ويعودون إلی القرية کل صيف ومعهم کتب يقضون إجازتهم في قراءتها، واستطاع أن يقرأ عناوين هذه الکتب وأسماء مؤلفيها وعرف منها أسماء طه حسين وعباس محمود العقاد وأحمد شوقي ودکتور محمد حسين هيکل ومصطفی المنفلوطي.»
وقد أثرت معرفة هذه الکتب وأسماء مؤلفيها في ذاکرته تأثيرا كبيرا، وقد أخذها نماذج لأعماله السياسيّة والأدبيّة فيما بعد.
وعندما شبّ بالمرحلة الثّانويّة من التعليم في المدرسة المحمّديّة الثّانويّه، كان قد تعوّد أن يقرأ کل أربعاء من الأسبوع حديث الأربعاء لعميد الأدب العربي الدکتور طه حسين الذي کانت تنشره جريدة السّياسيّة، ومن خلال حديث الأربعاء ظهرت أمامه عوالم سحريّة باهرة من حياة الشعراءِ العرب في العصور الماضيّة وبعد إکمال المرحلة الثّانويّة أحبَّ أن يلتحق بکلية الآداب ولکن کان والده وإخوته يحبون ويلحون کثيراً أن يلتحق بکلية الحقوق، لهذا انضّم إلی کلية الحقوق ولکن لم يقطع علاقته وصلته بالأدب، کان يحضر الجلسات التي تنعقد أحياناً في کلية الآداب، وأيضاً المحاضرات الأسبوعيّة للدکتور طه حسين.
«تخرج من کلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1943م، واشتغل بالمحاماة لمدة عامين.»
لكنّه کان قد قرّر أن يکون کاتباً.
قد صرّح في إهداءِ کتابه، “علي إمام المتقين” الذي أهداه إلی أخيه الدکتور عبد الغفّار بهذا الموضوع وبحبه للأدب رغم متاعبه، حيث قال فيه:
«کنت تشفق عليّ ونحن صغار من أن يصرفني الأدب عن طلب العلم، فلّما انتهيت من دراستي بکلية الحقوق خفت أن يصرفني الأدب عن الاشتغال بالقانون کما کان يريد أبونا رحمة الله، فلما أدرکتني حرفة الأدب عانيت ما جرته علی الحرفة من عسف وسخط وکيد، ثم تعوّدت أن تلومني لأني رفضت کثيراً من المناصب الکبری والرئاسة لكي أتفرّغ للأدب وحده بما يتطلبه من انشغال البال بالقراءة والتفکير والتأمّل وهموم التعبير، ولكم شقّ عليك هذا، عسی أن تجد في هذه الصفحات العوض عمّا سبّب لي اشتغالي بالأدب عن متاعب ومشقات.
و أيضاً يقول عن طفولته:
کنت وأنا علی الساقية أسترجع ما قرأت في الصيف …کنت أسترجع دائما کتاب الأيام وإبراهيم الکـاتب وزينب، وکـنت أری في قريتي أطفالاً عديدين أکل الذباب عيونهم کالقرية التي عاش فيها صاحب الأيام. وتمنيت لو أنّ قريتي کانت هي الأخرى بلا متاعب، کالقرية التي عاشت فيها زينب … الفلاحون فيها لا يتشاجرون علی الماء، والحکومة لا تحرمهم من الرّي والأطفال فيها لا يأکلون الطين ولا يحطّ الذباب علی عيونهم الحلوة …
کانت قريتي هي الأخری، جميلة کقرية زينب وأشجار جميزة التوت تمتد علی جسرها وتلقي ظلالها المتشابكة علي ماء النهر …
وفي حوض الترعه في قريتي، حيث تنتزع الحکومة الأرض کانت الحقول مجللّة بمساحات رائعة من القطن وعلی حوض الجسر تمتد أسماء بلا نهاية فوق خضرة متموّجة …
علی أنّ قرية زينب لم تعرف طعم الکرابيج، کما عرفت قريتي ولم تذق قرية زينب إضطراب مواعيد الري، ولم تجرّب بول الخيل يصيب من الأفواه ولم تعرف قرية زينب زهو النصر وهي تتحدی القضاءِ والإنجليز والعمدة وتنصر لبعض الوقت. وزينب التي لم تكن أبداً علی الرغم من کل شيء جميلة کوصيفة…»