لقد أيقن العالم أجمع ووقر في عقيدته بأن آفة الفساد على اختلاف مظاهرها تُعد المعوَّق الأكبر لكافة محاولات التقدم، والمقوَّض الرئيسي لكافة دعائم التنمية ، مما يجعل آثار الفساد ومخاطرة أشد فتكاً وتأثيراً من أي خلل آخر ، فإنه لا يقتصر دوره المخرب على بعض نواحي الحياة دون البعض الآخر ، بل يمتد إلى شتى نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
فعلى الصعيد الاقتصادي يؤدي الفساد إلي:
إعاقة النمو الاقتصادي مما يقوض كل مستهدفات خطط التنمية طويلة وقصيرة الأجل.
إهدار موارد الدولة أو على أقل تقدير سوء استغلالها بما يعدم الفائدة المرجوة من الاستغلال الأمثل.
هروب الاستثمارات سواء الوطنية أو الأجنبية لغياب حوافزها.
الإخلال بالعدالة التوزيعية للدخول والموارد وإضعاف الفعالية الاقتصادية وازدياد الهوة بين الفئات الغنية والفقيرة.
أضعاف الإيرادات العامة للدولة نتيجة التهرب من دفع الجمارك والضرائب والرسوم باستخدام الوسائل الاحتيالية والالتفاف على القوانين النافذة.
التأثير السلبي لسوء الإنفاق العام لموارد الدولة عن طريق إهدارها في المشاريع الكبرى بما يحرم قطاعات هامه مثل الصحة والتعليم والخدمات من الاستفادة من هذه الموارد.
تدني كفاءة الاستثمارات العامة وإضعاف مستوى الجودة في البنية التحتية العامة بفعل الرشاوي التي تدفع للتغاضي عن المواصفات القياسية المطلوبة.
وعلى الصعيد السياسي يؤدي الفساد إلي:
تشويه الدور المطلوب من الحكومة بشأن تنفيذ السياسة العامة للدولة وتحقيق مستهدفات خطط التنمية. انهيار وضياع هيبة دولة القانون والمؤسسات بما يعدم ثقة الأفراد فيها. أضعاف كل جهود الإصلاح المعززة للديمقراطية بما يتزعزع معه الاستقرار السياسي. إقصاء الشرفاء والأكفاء عن الوصول للمناصب القيادية بما يزيد من حالة السخط بين الأفراد ونفورهم من التعاون مع مؤسسات الدولة. إعاقة وتقويض كافة الجهود الرقابية على أعمال الحكومة والقطاع الخاص.
وعلى الصعيد الاجتماعي يؤدي الفساد إلي:
انهيار النسيج الاجتماعي وإشاعة روح الكراهية بين طبقات وفئات المجتمع نتيجة عدم العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص. التأثير المباشر وغير المباشر لتداعيات الفساد الاقتصادية والسياسية على استقرار الأوضاع الأمنية والسلم الاجتماعي.
تسبب الفساد في توليد المآسي لآلاف الملايين من البشر عبر التاريخ. ويحارب المصلحون وأصحاب الضمائر الحية الفساد للحد من آثاره المدمرة على المجتمعات والدول وخفض مستويات الظلم المتولد عنه. ويلجأ المفسدون إلى شتى الطرق والوسائل للوصول إلى غاياتهم بما في ذلك إثارة الفتن والحروب داخل المجتمعات وبين الدول. وتعتبر الحروب الداخلية والخارجية أسوأ نتائج وآثار الفساد، وقلما حدثت حرب أو نزاع محلي أو خارجي لا يكون للفساد دور فيه.
وترتفع معدلات الفساد في أزمنة النزاعات والحروب وصفقات السلاح بسبب تراخي الأنظمة واستخدام مبررات الأمن الوطني والسرية لتغطية ممارسات الفساد. وقد ذكر القرآن الكريم سعي بني إسرائيل للفساد وإيقادهم للحروب والنزاعات وإطفاء الله سبحانه وتعالى لها. وإضافة إلى ذلك يلعب الفساد دورا قوياً في تشويه العلاقات الاقتصادية والإنسانية، ويؤدي انتشاره إلى تعاظم المآسي البشرية وشيوع الظلم وإهدار الكثير من الموارد العامة والخاصة وإساءة استخدامها.
ويحاول المفسدون دوماً التقرب للسلطات بكافة أشكالها وإيجاد تحالف بين المال والسلطة ليتمكنوا من تنفيذ مآربهم، حتى لو اضطروا لاستخدام العنف والقوة والترهيب، وحتى لو تتسبب هذا التحالف في إزهاق حياة الكثير من البشر وتدمير البيئة والقيم. وإضافة إلى الحروب والفتن والنزاعات التي يتسبب فيها الفساد هناك الكثير من الآثار الاقتصادية المدمرة التي تنتج عن الفساد والتي يصعب حصر أبرزها في مقالة واحدة، ولهذا سيتم التطرق إلى بعضها في هذه المقالة والبعض الآخر في المقالة القادمة. ومن أبرز آثار الفساد التالي:
1) خفض معدلات النمو الاقتصادي وتباطؤ مسيرة التنمية
يحاول الفاسدون وضع العراقيل في وجه الاستثمار للاستئثار بمجالاته وللحصول على مكاسب غير مشروعة، مما يرفع تكاليف الاستثمار ويخفض مستوياته ويشوه تركيبته. ويتسبب الفساد أيضاً في قصور تغطية الخدمات الحكومية والخاصة وتردي البنية الأساسية ونوعيتها مؤدياً إلى خفض معدلات النمو الاقتصادي.
2) زيادة البطالة
يقود خفض معدلات النمو الاقتصادي الناتج عن الفساد إلى تراجع معدلات نمو التوظيف وازدياد معدلات البطالة. ويؤدي الفساد بصورة مباشرة وغير مباشرة إلى انخفاض إنتاجية العمالة وتراجع الدخول. وينتج عن فساد التوظيف تراجع مستويات المواءمة بين المهارات والوظائف مما يخفض من الإنتاجية ويقلل من معدلات نمو الناتج المحلي.
3) زيادة الفقر وسوء توزيع الدخل
ورفع تكاليف المعيشة
ترفع عمولات ومدفوعات الفساد من تكاليف الأنشطة الاقتصادية والتي تضاف إلى أسعار السلع والخدمات وتدفع معدلات التضخم وتكاليف المعيشة إلى مستويات أعلى. ويؤثر الفساد بدرجة أكبر على الفقراء ويفاقم من معضلات الفقر، حيث يقود عدم استطاعتهم لدفع الرشا وضعف علاقاتهم بالمسؤولين الحكوميين إلى فقدانهم الكثير من حقوقهم، مما يفاقم من معضلات الفقر ويزيد من تباين الدخول بين الشرائح الاجتماعية المختلفة وتنخفض عدالة توزيع الدخل بين هذه الشرائح.
4) التعدي على حقوق الإنسان
يقود انتشار الفساد وقوة المفسدين وتحالفهم مع السلطة إلى استخدام كافة الوسائل للوصول إلى أهدافهم بما في ذلك القتل والتعذيب والتعدي على الأعراض وسجن الأبرياء والفقراء. وتكثر في الدول الفاسدة حالات الظلم والتعدي على حقوق الإنسان. وحتى لو لم تحدث هذه المظالم فإن الفساد بحد ذاته يمثل تحدياً قوياً لحقوق الإنسان من خلال الإضرار بأحوال وحقوق الضعفاء والتي يقوم بها المتجاوزون والمعتدون الفاسدون.
5) تراجع مستويات العدالة الاجتماعية
تتراجع مستويات العدالة الاجتماعية والمساواة بين أفراد الأمة بسبب الفساد، مما قد يولد حنقاً بين المكونات الاجتماعية ويهدد السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي.
6) الحد من المنافسة
تعزز المنافسة في كافة المجالات الاقتصادية من قدرة القطاعات الاقتصادية على التطور ومنافسة العالم الخارجي والحد من ارتفاع الأسعار وتحسين المنتجات ورفع الإنتاجية. ويسعى المفسدون إلى خفض مستويات المنافسة الحرة في الاقتصاد للاستئثار بالمنافع الاقتصادية.
7) تراجع الثقة بالمؤسسات
تعتبر فعالية المؤسسات الحكومية من المتطلبات الأساسية للتنمية والعدالة. وتتطلب فعالية الأنظمة الحكومية ثقة المجتمع بالمؤسسات الحكومية وقدرتها على تنفيذ البرامج الحكومية بأمانة وإخلاص.
أن الفساد يؤثر على التنمية الاقتصادية بعدة طرق.
أولا، يُضعف قدرة الدولة على تعبئة الإيرادات وأداء وظائفها الأساسية. ويضر الفساد بثقافة الامتثال ويفضي بالتالي إلى مزيد من التهرب الضريبي. على سبيل المثال، عندما ينظر المواطنون إلى الإعفاءات الضريبية على أنها جزافية، يقل الحافز لديهم على سداد الضرائب. ونتيجة لذلك، تنخفض الإيرادات التي تحصلها الدولة وتعجز عن تقديم الخدمات العامة، مع ما لذلك من عواقب سلبية محتملة على النمو.
ثانيا ، يؤدي الفساد إلى تضخيم تكاليف عملية المشتريات الحكومية، فيقلل كمية الإنفاق العام ويخفض مستوى جودته. ويُمَكِّن كذلك من اختلاس الأموال من خلال المعاملات التي تُنَفَّذ خارج الموازنة. ويؤدي هذا الاختلاس إلى تقليل الموارد المتاحة للاستثمارات العامة وأوجه الإنفاق الأخرى ذات الأولوية، مما يوسع الفجوات في البنية التحتية ويؤثر على النمو.
ثالثا، يتسبب انخفاض الإيرادات العامة في زيادة اعتماد البلدان في الغالب على التمويل من البنك المركزي، مما يسفر عن التحيز للتضخم في البلد المعني. وفي نفس الوقت، فإن الفساد يزيد من ضعف الإشراف المالي ويهز استقرار النظام المالي. وينشأ ذلك من انخفاض مستوى ممارسات الإقراض والتنظيم وضعف الرقابة على البنوك.
أخيرا ، يمكن أن يصل تأثير الفساد إلى رفع تكاليف الدخول إلى الأسواق المالية لأن المقرضين يأخذونه في الحسبان. ويتفاقم الضرر الذي يصيب القطاع الخاص من الفساد لأنه يعمق مشاعر عدم اليقين لدى الشركات ويقف حجر عثرة أمام دخول شركات جديدة. وتُخصص الموارد للأنشطة الباحثة عن الريع بدلا من الأنشطة الإنتاجية.
وقد تترتب عليه كذلك تكاليف اجتماعية وبيئية باهظة. فانخفاض مخصصات البرامج الاجتماعية والموارد الضائعة من جراء الفساد تحد من بناء رأس المال البشري. وفي نفس الوقت، يؤدي ضعف قواعد تنظيم البيئة وسوء إنفاذها إلى زيادة التلوث واستخراج موارد طبيعية أكثر مما يلزم. وفي الحالات القصوى، من شأن الفساد المؤثر في النظام أن يؤدي إلى زعزعة الاستقرار السياسي واندلاع الصراعات. ويذهب التقرير إلى أن وفرة الموارد الطبيعية يمكن أن يزيد الوضع سوءا.
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان