المناقشات العلمية الجادة التي شهدتها اروقة مؤتمر المجلس الاعلى للشئون الاسلامية الاخير اسقطت الكثير من الاقنعة حول المواطنة المفهوم والمعنى والدلالة والفقه والاولويات وضروريات الحياة ومناهج التقدم وتحقيق الاستقرار ونشر الامن والسلام ودعم كل اواصر المحبة وكل ما من شأنه الارتقاء بالوطن والمواطن وتحقيق حياة كريمة بالفعل.
التجارب الحقيقية لتطبيقات المواطنة بمفهومها الشامل وبالرؤية الاسلامية المستنيرة كانت حاضرة وبقوة عرضها كبار المفكرين والعلماء من 47 دولة من قارات العالم المختلفة وفي المقدمة التجربة المصرية في سنوات العقد الاخير في عهد الرئيس السيسي وكيف استطاعت مصر ان ترتقي بمفهوم ومعنى المواطنة لتصل الى مرحلة الاستقرار والتعافي من كثير من موجات الاستهداف ومحاولات ضرب الاستقرار وزعزعة الامن واثارة الفتن.
نجحت مصر في الانتقال بالمواطنة من مرحلة المواطنة المتذبذبة الى مرحلة المواطنة الكاملة المطمئنة الدافعة للبناء الداعمة للأمن والاستقرار والتي حالت دون نفاذ مخططات العبث واسقاط الدولة وزعزعة هيبتها والخروج الى بر الامان وتجاوز مراحل الفوضى واملاءات المتربصين من قوى الشر في الداخل والخارج.
لعل الانجاز الاكبر هو الخروج بمصطلح المواطنة الى الفضاء الرحب الوسيع وعدم حصره وحصاره في مفهموم ضيق اريد له وبه لاغراض في نفس يعقوب وانه لا يعنى الا العلاقة بين المسلم والمسيحي.وان المواطنة ترتبط ارتباطا وثيقا بكل شئون حياة الوطن والمواطن وكل حقوق الانسان وليست محصورة في حق واحد من الحقوق السياسية.
لفت نظري في المناقشات ذلك التأكيد القوي بين نجاح المواطنة والحفاظ على الدولة وهيبتها وهي الفكرة التى شدد عليها أكثر من مرة خلال المداخلات د. محمد مختار جمعة وزيرالاوقاف ورئيس المؤتمر والذي اعتبر ان الدولة هي الضامن والضمان لتحقيق أهداف المواطنة كاملة والدفاع عنها وان سقوط الدول او زوال هيبتها لا يمكن معه الحديث عن مواطنة او اي حقوق اخرى مشيرا الى ما يحدث في بعض الدول من حروب مدمرة اكلت الاخضر واليابس. المدن والقرى دمرت والشعوب هجرت وتقيم في المخيمات على حدود اللئام وسط اجواء بالغة الصعوبة من ثلوج وامطار وغياب ابسط مقومات الحياة.
الامر الذي عكسته ايضا واحدة من توصيات المؤتمر المهمة فالدولة أولاً ومن خلالها تُقرّ جميع الحقوق فدولة المواطنة هي الأساس الذي يبنى عليه السلام المجتمعي والعالمي، وأي إضعاف للدولة أو المساس بسلامتها واستقرارها هو تهديد للسلم والأمن المجتمعي والعالمي، وإفساح المجال للجماعات الإرهابية والميليشيات الطائفية لتعيث في الأرض فسادًا.
قد يظن البعض ان المواطنة فكرة حديثة وانها من بنات افكار عالم اليوم والحقيقة انها فكرة اسلامية اصيلة موجودة ومؤصلة منذ بداية الهجرة النبوية..اي ان العالم الاسلامي يعيش الان اكثر من 1443 سنة مواطنة..وضع اساسها النبي صلى الله عليه وسلم مع الساعات الاولى للدولة الجديدة في المدينة وحملت اسم وثيقة المدينة بين اطياف المجتمع انذاك من مسلمين مهاجرين وانصار ويهود وغيرهم..محددا اسسا واضحة للمواطنة لا تقبل اللبس والتأويل.
لذلك لم يكن غريبا او مدهشا ان تكون وثيقة المدينة هي القاسم المشترك الاعظم بين جميع المتحدثين بكل اللغات فلم تخل كلمة من تعليق او اشارة حول دستور المدينة واعتباره اساس المواطنة وان الاسلام بحق هو دين رعاية الحقوق والواجبات واحترام المعاهدات والمواثيق وضمان كل ما يكفل الكرامة ويحقق انسانية الانسان دون نظر الى لونه او عرقه او عقيدته.
وثيقة المدينة دستور واضح ومتكامل الاركان ببنود ومواد تفصيلية اذهلت المستشرقين والمناوئين للفكرة الاسلامية لان رسول الله صلى الله عليه وسلم انفرد من بين جميع الأنبياء بأن عقد أكبر وأعظم وثيقة سياسية لم يسبقه إليها نبي ولم تتجاوزها في روحها ودلالتها أي وثيقـة تاريخـية معروفة الـيوم.
وثيقة المدينة اشتملت على بضع وخمسين بندا لتنظيم امور المجتمع بكل اطيافه وفئاته الاجتماعية والدينية والوثنية وتعتبر أول دستور مدني في التاريخ واعتبره الكثير من المؤرخين مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية ومَعلَمًا من معالم مجدها السياسي والإنساني.
وثيقة المدينة هي وثيقة السلام وحقوق الانسان والعلاقات الدولية في مجتمع متعدد الثقافات والاعراف والاديان تبين كيف سبق النظام الإسلامي جميع الأنظمة في إعلاء قيم التسامح والتكافل والحرية ونصرة المظلوم وغيرها من القيم الحضارية التي يتغنى بها العالم في الوقت الراهن دون تفعيل جاد أو تطبيق فاعل.
في اعتقادي ان رسوخ فكرة الدولة الوطنية في الفكر الاسلامي من اول لحظة لقيام الدولة هو السبب الرئيسي وراء استهداف فكرة الدولة وضربها من قبل الجماعات المتطرفة والدعم اللامحدود التى تجده من القوى المعادية للدين والوطن والتركيز على زعزعة اصول واركان الدولة بأفكار هلامية وفتاوى ما انزل الله بها من سلطان. فتاوى لا يمكن ان تصمد امام الحقائق الناصعة المرتكزة على اسس قوية من القران والسنة النبوية المشرفة.
بقدر حالة الزهو والفخر التى يشعر بها الانسان بما نمتلكه اسلاميا من قواعد واصول وما يحويه ديننا من مبادئ وقيم تحقق انسانية الانسان وتضمن له السعادة وتخلصه من الشقاء وتريحه من دوامات التيه والضياع ..شعرت بكثير من الالم والحسرة على حال العالم الاسلامي وكيف فرط في كنوزه وتكاسل عن العمل بها والتمسك بها وتقديمها الى العالم اجمع على الاقل بذات القدر من الحماس لتقديم النظريات والفكر الغربي بكل ما يحويه من غريب ودخيل ومناقض ومناهض للقيم والاخلاق بصفة عامة.
افكار دعم المواطنة كانت حاضرة بقوة في المناقشات كان نصيب التعليم والثقافة والاعلام والمؤسسات النيابية والتشريعية منها كبيرا ومطالبات حماسية بان تقوم كل جهة بممارسة المواطنة واعلاء روحها وان تقوم بدورها الحقيقي في نشر ودعم ثقافة المواطنة وترسيخها في العقول والاذهان لتصبح منهج حياة وليست مادة عابرة تلوكها الالسنة ويتم الحديث عنها فقط اوقات الازمات وما شابه ذلك من اجل الوصول بالفعل الى المواطنة الرشيدة الفاعلة التى تبني ولا تهدم وتدفع دائما الى الامام.
الادوار الحقيقية لمؤسسات التنشئة الاجتماعية ومراكز التنوير وتنمية الوعي هي الكفيلة بإجهاض مخططات قوى الشر في الداخل والخارج والقادرة على تشكيل حوائط صد ودفاعات قوية ضد اي محاولة للعبث بالعقول ونفث السموم اياها وتصحيح المفاهيم التي قد تؤجّج الصراعات بين البشر وتقديم التفسير الصحيح للنصوص التي يستغلها المتطرفون لترويج أيديولوجياتهم الخبيثة.
برامج العمل الخاصة بدعم مسيرة المواطنة الحقة مسئولية الجميع وفي كل الاتجاهات وليست مقصورة على جهة مخصوصة.
اتمنى لو استطعنا حصر كل الافكار البناءة والجريئة التى طرحت خلال مناقشات المؤتمر ووضع خطة عمل واقعية لدعم قيم وافكار المواطنة ليس فقط بين الشباب في المدارس والجامعات ولكن في المؤسسات المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية وغيرها وان يتم ترجمتها وتقديمها للعالم من خلال سفاراتنا في الخارج لتقديم تصور حقيقي عن المواطنة في مصر وانها قضية انسانية شاملة متشابكة الاغصان من اجل رفاه الافراد والمجتمعات وليست مجرد ورقة ضغط يتم التلاعب بها في اوقات المحن والازمات لتحقيق مكاسب رخيصة على حساب الام الشعوب المغلوب على امرها كما يتوهم الغربيون..
والله المستعان.
Megahedkh@hotmail.com