بفعل رطوبة الليل، أصبح الصفيرالأجش لميكروفون المسجد، أشبه مايكون بحشرجة قتيل يحتضر.. سكين يشق في القلوب ــ رغم نداوة الصباح ــ جرح غائر، غليظ .
تتسمر أقدام من يباغته الصفيرالقبيح في مكانها، يكف جميع من يسمعونه في البيوت عن الحركة.. يعلمون علم اليقين أنه يحمل خبر موت؛ واحد ، اثنين، ثلاثة، الله أعلم بعدتهم.. لكنه موت، سقوط أرواح جديدة بخلاف ماسقط البارحة .
يفزع من غلبه النوم مذعورًا، وكأنه المعني بالصفير، فالموت قاتل مباغت لايعلن موعدًا، ولا يستأذن في الدخول.. هل يضرب الخاطف موعدًا لقدومه؟!
تتجمع حواسهم في آذانهم، يسترقون السمع ليعلموا أسماء من قتلهم الفيروس اللعين خلال الساعات الفائتة .
بعد أن ينفخ مؤذن المسجد ـــ كعادته ـــ في ماكينة تكبير الصوت ليختبرها، فتمرق نفخته العفية في الهواء كأنها نذير قيامة.. يمط حروف الكلمات ضاغطًا عليها وكأنها ولادة عسرة ، يتلكأ في نطقها وكأنه يعتذر عن كونه بشير أحزان :
” بسم اللـه الرحمن الرحيم .. إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.. توفى إلى رحمة الله تعالى ……….. و الدفن فور وصول الجثمان” .
لم يعد مؤذن المسجد يذَّكر الناس بأن العزاء يقتصر على تشييع الجنازة ، فقد لزم المشيعون بيوتهم خوفًا ورهبًا.. كما لم يعد تشييع الجنازة معلوم الوقت مثل أيام الموت القديم، أصبح مرهونًا بساعة وصول الجثمان من مشفى العزل الصحي في أى وقت من ليل أو نهار.
ماعلى أهل الميت سوى تجهيز المقبرة والابتعاد عنها.. يتولى عملية الدفن “رجال الصحة” الذين يرتدون ملابس غريبة أشبه مايكون برواد الفضاء؛ وذلك للوقاية من العدوى بالفيروس القاتل؛ الذي كان كثيرًا مايجد سبيلًا إلى صدورهم.. يغلق مسارات الهواء فتسقط أرواحهم .
طوال أيام الرحيل المكثف،كان مألوفًا أن ترى عدة مقابر تفتح أفواهها المظلمة دفعة واحدة، لتغلقها على جثث الراحلين المعبأة في أكياس سوداء؛ مكتوب عليها تحذيرات بعدم اللمس أو الاقتراب منعًا للعدوى المهلكة .
يتكررمشهد صراخ سيارات الإسعاف في طريقها إلى المقابر في الصباح، وسط النهار، في جوف الليل.. أمسى الموت سيد الوقت، أبرز مفردات الحياة .
ماكان الناس يعرفون دفن الموتى في الصباح الباكر أو في جوف الليل حتى فرض الفيروس القاهر قانونه الجديد، فالضيف الثقيل لاموعد لحضوره ولااستئذان.
كانت قريتنا تصحو على الأحزان، وبالأحزان تستقبل المساء، حتى تشققت قلوبهم مثل الأرض “الشراقي” العطشى لماء الحياة ..
يغزو فحيح مكبر الصوت بأعلى مئذنة المسجد نفوس الصغير والكبير، ربما هي الحالة الوحيدة التي وحدهم فيها همجية الضيف الثقيل، سواسية تحت مقصلة الوباء. كأنه موسم لتساقط الأرواح، وليس حبات التوت والجميز من شواشي أشجارها المحبوبة ، وشقاوة الأطفال وضحكات الصبيان والبنات .
لم يعد الفزغ يغزو أوصال الناس مثلما كان يحدث في أيام الموت العادي.. جعلتهم الجائحة سكارى وماهم بسكارى، حل بهم الاستسلام العاجز، انعدام الحيلة أمام باطش لايعرف الرحمة ..
بلا إرادة واعية يتحسس من يسمع صوت النبأ الحزين، جسده ليتأكد أنه مازال حيًا.. يتبادلون في تباعدهم نظرات الصمت الناطق: هل أنت بخير؟ وهم يعلمون أنهم ليسوا بخير..فالفيروس الغادر رغم تباعد الأجساد وكمامات الأفواه والأنوف يخترق صدورهم . عدو لاتراه ولايمكن أن تلمسه بيديك هو أشرس الأعداء؛ حكمة قالها رجل عجوز طحنته نوائب الدهر.
سخر أحدهم في مرارة طافحة: لم تعد الحياة تقاس بالسنين كسالف عهدنا بها، بل باليوم ونصف اليوم.. فمنا من يطول عمره إلى المساء، وفينا من يعيش إلى الصباح !
صوب مكلوم نظره نحو السماء والدموع تغرق تضاريس وجهه : ماالذي يراد بي ياالله ؟ قتل الفيروس، الجبار، شديد البطش، أولادي وزوجتي فلماذا لم يقتلني أنا أيضًا ؟ أي حياة ذليلة أحياها والدار بغير أهلها ظلام موحش، صامت مثل كهف خرب ؟ إن البيت الذي كان فيه راحتي وفرحتي بميلاد أولادي وإغلاق بابه علينا كان الأمان والستر لي.. أصبح إغلاق بابه مصدر رعبي وأحزاني وافتراس القهر لقلبي الوحيد الواهن..أمسى باردًا، لزج الهواء، مثل مقبرة لم تفتح مذ ألف عام.. لذا أرقد في تراب الشارع مؤتنسًا بدواب الليل؛ الكلاب والقطط والفئران والهوام وحشرات الشقوق.. وأخاف دخول بيتي !
مشهد جثث أهلي في الأكياس السوداء يمزق روحي.. منعوني الاقتراب منهم خشية على “جثتي” من العدوى، ألا يعلمون أن الموت هو الهدية التي أرجوها الآن؟! .
جعل المكلوم يتكلم ويبل البكاء كلماته حتى أسكرته الحال فصرخ: ياالله.. ياأرحم الراحمين، نحن أضعف من أن نواجه هذا الملعون فارفعه عنا، فاأنت وحدك القادر ؟
كان صدى صوته يزلزل الفراغ ، يهز جدران البيوت وغصون الأشجار وكأنها تستغيث معه !
جاء صوت جهوري من خلف النوافذ؛ أظنه شيخ المسجد الذي غاب عن العيون مذ حلت الجائحة: استغفر ربك يارجل، لاتمت كافرًا ؟
زعق صوت وكأنه يسخر من اختفاء الشيخ : لاتسبوا الفيروس فإنه جند من جنود اللـه ، من سبه فهو آثم ، سيخشى النار؟!
عاد صوت الشيخ المختبيء خلف النوافذ: أتهزأ من دين اللـه يامجنون ؟ مصيرك جهنم وبئس القرار .
رد متهكمًا : كيف أهزأ وأنت تعكف في بيتك يامولانا لتخترع للناس علاجًا يقضي على الفيروس الفاتك ؟!
ظن شيخ المسجد أن أصواتًا ستدافع عنه، وتعنف المتكلم وتصفه بأفظع الصفات وتلعنه؛ مثلما كان يحدث في أيامه الخوالي قبل الجائحة.. إلا أنه لم يسمع سوى الصمت الذي بدده صفير مكبر الصوت؛ يخبر الناس بتساقط أرواح جدد قتلها الفيروس المميت، ليفتحوا أفواه المقابر، لدفنهم فور وصول الجثامين من مشافي الحجر الصحي .
أسند رجل طاعن السن يتوكأ على عصاة، ظهره إلى حائط المسجد الذي لايفتح أبوابه؛ اللهم لإعلام القرية بأسماء الأرواح التي سقطت.. وكذا رفع الآذان دون إقامة للصلاة؛ وحسب التعليمات العليا يقول: ألا صلوا في بيوتكم.. ألا صلوا في رحالكم .
جعل الرجل العجوز ينكش التراب بعود من حطب القطن الذي فقد عرشه ــ كما يقول أهل الزراعة، بفعل فاعل ــ يهمس لعود القطن: كنت تسترنا في زواج عيالنا وبناء بيوتنا، ثم تسترنا ” كفنًا ” لأجسادنا ، ماعدنا نصادفك إلا بقايا أعواد حطب جافة، في أى قبر دفنوك ؟!
لم يستجب الرجل العجوز للأصوات المتباعدة المشفقة، التي تخشي عليه مجازفة الخروج من داره، ربما صادفه الفيروس وهو شيخ كبير .
كان يبتسم لنفسه في مرارة طافحة وكأنه يرد على كلامهم : نجوت من ” وباء الكوليرا” وكانت ” شوطة ” تحصد أرواح الكبار والصغار بجنون، وكنا نزرع الأرض رغم الموت الذي عاش معنا، لم تعرف قريتنا حينها سوى حصاد المحاصيل، ليطعم البشر والحيوانات والطيور..لكنكم جيل هش، أشباه رجال، لاطاقة لكم بفلاحة الأرض، لا تفلحون إلا في أحاديث النساء وأقراص المنشطات .
زفر زفرة حاول بها إزاحة الهموم عن كاهله الواهن ، ثم واصل حديث نفسه: وهاأنا يمتد بي الأجل لأرى منجل ” الكورونا ” تتساقط بين أسنانه الأرواح، وكأنه موسم زوالها كأوراق الخريف الصفراء.
رحل سواد أصحابي؛ من كانوا يجلسون معي في هذا المكان الطيب، نسند ظهورنا على حائط المسجد؛ فلم يعد لنا سواه، نتكلم بعد صلاة العصر ، نضحك ، نتذكر ماضينا بكل تفاصيله ونضحك، نعيد من جديد حكايات مخازينا وفضائحنا وقت شبابنا وفتوتنا؛ حقًا القوة بنت الشيطان..
تدمع عيوننا من شدة الضحك، ثم نضحك من جديد لمشهد أفواهنا الخربة إلا من بقايا أسنان أوعندما تتحرك فيها التركيبات الصناعية دون إرادتنا، نشكو ساخرين من أنفسنا رغم ضحكنا؛ وجع الظهر والمفاصل وعدم صلاحيتنا لإتيان النساء. وعند سماع صوت المؤذن لصلاة المغرب، نختم جلستنا بالاستغفاروالدعاء بزيارة النبي المصطفى، ثم ننهض للصلاة .
سلب الفيروس القاتل أرواح اصحابي المؤنسين، أصبحت وحيدًا، لاجليس ولاأنيس ولاصلاة في المسجد.. اليتيم من لاأنيس له . لامحالة جاء دوري في الرحيل .
أرجو أن يحين أجلي في سجودي لرب العالمين.. كنت أرجوه في البيت الحرام لكن الوباء أغلق البلاد.. إيه ـــ رب هنا رب هناك ــ كلها بلاد اللـه .
كان يأمل أن يسمح له مؤذن المسجد بالدخول ليعتكف به مصليًا حتى يدركه الموت، ولأنه ممنوع كان يصلي قدام المسجد.. كان المؤذن يبتعد عنه مذعورًا كلما رآه؛ وكأن الرجل يحمل الفيروس معه، يخاطبه في مبعدة ناصحًا في ثوب المعتذر: ياعم الحاج، ربي يعطيك الصحة وطول العمر،إلزم بيتك، لو تركتك تدخل المسجد ستخرجني وزارة الأوقاف منه، وهو لقمة عيشي الوحيدة كما تعلم، لاأمتلك أرضًا لأزرعها مثل الناس، ولدينا وزير شديد !
ابتسم قائلًا: لو طردتك الأوقاف بسببي سأكتب لك فدانًا مما أملك؛ تزرعه رغم أنف أولادي .
ضحك المؤذن بمرارة وقال مازحًا: اكتبه الآن ؟ فلو شردني الوزير، أو أخذني الوباء قبلك فمن لعيالي بعدي؟!
استعاد الرجل روح السخرية القديمة التي هجرته، ضحك حتى بدت بقايا أسنانه، قال وهو يمسح دمعات عينيه : لاتقلق، سأتزوجها فور وصول الجثمان، وسأربي لك الأولاد أحسن تربية ياحضرة المرحوم .
في المساء توقفت يده في الهواء قبيل أن تلمس طعام عشائه المسلوق، خفق قلبه عندما سمع صراخ سيارة الإسعاف، تمتم : اللهم أجعله خيرًا ؟.
بكى كمن فقد ولده الوحيد، حين قالوا: أخذت مؤذن المسجد؛ ارتفعت حرارته بصورة مفاجئة، احتبس صوته، اعتصر الألم صدره، جعل يتلوى .. فزعت زوجه، حبست عيالهما في غرفة بعيدة، خرجت إلى الشارع، صرخت تستغيث:
زوجي الذي يؤذن لكم في الجامع جاءته الكورونا ياأهل البلد