عندما أصدر المفكر والباحث الأمريكى صامويل هنتنجتون (1927ـ 2008) كتابه المثير ” صدام الحضارات ” عام 1996 أحدث دويا هائلا فى سنوات قلائل، حتى اعتبر أشهر كتاب سياسى فى العالم مع مطلع القرن الواحد والعشرين، وترجم إلى أكثر من 40 لغة، وصار كتابا مقدسا ودستورا لجماعات المحافظين الجدد فى أمريكا واليمين المتطرف فى أوروبا، يستلهمون أفكاره وتوجهاته، ويتعاملون سياسيا واجتماعيا وثقافيا على النحو الذى رسمه، خاصة مع تولى الرئيس جورج بوش الا بن السلطة فى الولايات المتحدة من عام 2000 إلى 2008 .
فى هذا الكتاب ـ الوثيقة ـ يؤكد هنتنجتون أن الحروب والصراعات العنيفة فى العالم بعد سقوط الاتحاد السوفيتى وانتهاء الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية، وإنما بين أتباع الحضارات والثقافات والأديان المختلفة، وتحديدا بين الغرب المسيحى والشعوب الإسلامية، باعتبار أن الإسلام هو الديانة الوحيدة التى تشكل نسقا قيميا وأخلاقيا وعقائديا متكاملا، يمكن أن يكون منافسا وبديلا للنسق القيمى والأخلاقى والعقائدى الموجود فى الغرب .
ورغم تهافت نظرية ” صدام الحضارات ” وفساد منطقها التحريضى، الذى يكتسى بغطاء علمى، ولايعدو أن يكون دعوة لتقسيم العالم إلى معسكرين متحاربين إرضاء لقوى التطرف فى كل الملل والنحل، وتبريرا لاحتلال الدول ونهب ثرواتها، فإن هذه النظرية بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 وما تلاها من غزو لأفغانستان والعراق اعتبرت إحدى مسلمات العصر، واعتبر هنتنجتون نبيا تتحقق نبوءاته، ومن ثم وجبت طاعته، خصوصا عندما دعا إلى إعادة بناء النظام العالمى بأفكار وفرضيات أراد تحويلها إلى حتميات .
ومن هذه الفرضيات ” الحتمية ” أن الدين هو أهم العوامل التي تميز بين الحضارات، والعامل الأهم في صراعات المستقبل، وأن المجتمعات الإسلامية تنتمى فى مجملها إلى الإسلام الأصولي الذى يرفض العلمانية الغربية، بل يتحداها ويحاربها، وهو ماسيجعل الصراعات العسكرية بين الحضارتين الإسلامية والغربية تستمر وتزداد فى المستقبل، وقد تكون أكثر قساوة، كما أن الهجرات المتزايدة للمسلمين صوب الغرب ستسبب مشكلات لأوروبا وأمريكا تهدد هويتها ونظمها الاجتماعية، ولذلك يجب التعامل مع الزيادة السكانية فى العالم الإسلامى بكل حسم .
وعلى هذا الدرب سار هنتنجتون فى اتجاه شديد العداء للعرب والمسلمين دون تفرقة بين تطرف واعتدال، فالجميع بالنسبة له فى سلة واحدة، ولم يخف الرجل أن سبب العداء هو الإسلام نفسه وليس سلوك المسلمين، أو سلوك بعضهم، وأنه لايرى علاجا لهذا العداء إلا الصراع الدائم الممتد من الماضى إلى الحاضر والمستقبل .
ويزعم هنتنجتون أن النظام العالمى فى القرن الواحد والعشرين قد استقر عند قدرة الغرب المسيحى على تشكيل كتلة حضارية شبه متوافقة مع الحضارات الأخرى، العبرية والهندية والكونفوشيوسية واليابانية، للوقوف فى وجه الحضارة الإسلامية وهزيمتها، أو احتوائها ومحاولة تغييرها وتطويرها سلما أو حربا، حتى يستقر السلام العالمى .
ثم جاءت الحرب الروسية الأوكرانية هذه الأيام لتؤكد فساد نظرية هنتنجتون وتنسفها من أساسها، فلا هى حرب أيديولوجية، ولا حرب دينية حضارية، وإنما هى فى التوصيف الصحيح حرب ” جيو ـ سياسية “، مثل كل الحروب التى شهدها العالم، تتعلق بتوازن القوى وتنافس التكتلات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وطبيعة التحالفات الدولية ومناطق النفوذ وحدود الأمن القومى .
فالطرفان المباشران فى الحرب ــ روسيا وأوكرانيا ــ ينتميان إلى نفس الدين، بل إلى نفس المذهب، المسيحية الأرثوذكسية، وليس بينهما تناقضات أيديولوجية أو ثقافية أو حضارية، بل العكس هو الصحيح، فالبلدان تجمعهما ثقافة واحدة، وبينهما تداخل كبير فى اللغة والعرق واللون، وكانا يشكلان معا إلى وقت قريب جزءا من دولة واحدة هى الاتحاد السوفيتى الذى تفكك عام1991، وقد نشبت الحرب بينهما وفق نظرية ” صدام المصالح ” وليس ” صدام الحضارات “.
والحقيقة أن فساد نظرية هنتنجتون كان واضحا منذ أن كشف عنها فى مقالاته التى نشرها فى مجلة ” فورين أفيرز ” قبل أن يجمعها فى كتاب، وهناك شواهد كثيرة كانت كافية لوأدها فى مهدها، فالعالم الإسلامى ـ مثلا ـ لم يكن كتلة سياسية لها استراتيجية واحدة، ومعظم صراعات الشرق الأوسط كانت بين دول إسلامية: العراق وإيران، العراق والكويت، المغرب والجزائر، ليبيا وتشاد، السعودية وإيران، وفى المقابل هناك العديد من دول العالم الإسلامى حلفاء لأمريكا والغرب المسيحى، وتركيا المسلمة عضو مهم فى حلف الأطلنطى، وقد رأينا مؤخرا كيف تتقارب دول الخليج مع أمريكا وأوروبا وإسرائيل على حساب علاقاتها مع إيران وتركيا المسلمتين، وكيف تتقارب الهند مع دول الخليج رغم حربها المعلنة على المسلمين فى كشمير وغيرها من الولايات الهندية .
والأمر نفسه يقال عن الغرب الذى تتجاوز صراعاته روابط الدين والثقافة، ويكفى أن الحربين الكونيتين كانتا بين دول مسيحية بالأساس، وحرب الفوكلاند كانت بين بريطانيا والأرجنتين، وهاهى حرب روسيا وأوكرانيا تقدم دليلا جديدا دامغا على أن نظرية هنتنجتون كانت مجرد وهم .
وفى العموم فإن المتغيرات التى شهدتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، وكذلك المتغيرات التى طرأت على كثير من الدول العربية والإسلامية، أثبتت أكذوبة ” صراع الحضارات”، لكننا يمكن أن نربط على سبيل المثال أسباب صعود الراديكالية الإسلامية بصعود الفاشية الأوروبية .