يقول محمد هلال مابين عبثية الفصل الأخير وواقعية الأول وما بينهما من سطوة الأمس وتباشير القيامة.. استطاع الأديب الكبير نشأت المصري في رحلة روائية استغرقت 180 صفحة من القطع المتوسط ، أن يقلب موازين اللعبة الكونية ، أن يعيد ترتيب أوراقها عدة مرات مختلفة، ليقدم رؤية تفكيكة للعالم في خطوط غير متوازية بل بطريقة يطلق عليها اسم ” الزجزاج” أى المشي المتعرج أشبه بأرقام السبعة والثمانية المتلاحمة .. وذلك في روايته ” كوتشينة” .. متدثرًا برؤية جديدة مختلفة وكأنه، أو هو بالفعل ميلاد إبداعي جديد مختلف عما قدمه من ألوان الابداع رغم كثرتها التي جاوزت أكثر من مائة كتاب متنوع مابين القصة والمسرحية والرواية والشعر وأدب الأطفال والتراجم. إلا أن القلق الإبداعي الحقيقي لايتوقف عن التجريب.
تلك الرؤية المختلفة ليست بهدف العبثية والفوضية الفكرية المُرتبة أو المبعثرة وإنما بقصد إعادة البناء الإبداعي بتكنيك مميز، بشكل يليق بأديب كبير صاحب نظرة متميزة أولًا، وكذا يليق بفكر جديد لعالم متجدد يموج بالعديد من المذاهب والنظريات والتجارب الجديدة المتنوعة والمتباينة ! .
تبدو تلك النظرة الفلسفية منذ الوهلة الأولي وهو مايوحيه اسم الرواية ” كوتشينة “؛ تلك اللعبة العالمية المعروفة لدى كل الشعوب ” لعبة الورق” ، التي تختلف في طريقة ممارستها، إلا أنها تتوحد في حالة واحدة، وهي إعادة ترتيب الأوراق دون نظام محدد، وإنما خلطها بشكل عشوائي بقصد إعادة ” تفنيطها”، لتختلف عن تنسيقها السابق، لتبدو في هيئة ترتيب جديد رغم أن أوراق اللعبة لم تتغير وإنما أرقامها . وبالمناسبة كلمة تفنيط مأخوذة بتصرف ضئيل من كلمة “تفقيط” التي تعني في المعاجم اللغوية كتابة الأعداد أو الارقام كتابة لفظية؛ خشية التلاعب بها، وذلك في كتابة الصكوك والمستندات والعقود الرسمية .
تُذكرنا ” كوتشينة ” بروح الرواية العالمية ” زهور نهر تيزا ” للأديب الإيطالي دانتي مارياتشي، الذي يتميز بأسلوب نثري رشيق أشبه مايكون بالشعر، وهنا نقطة إلتقاء كبيرة بين دانتي الإيطالي ونشأت المصري .. إذا ماعرفنا أن أديبنا المتنوع العطاء بدأ ومازال شاعراً متميزًا صاحب باع كبير في فن الشعر؛ صدر في عدة دواوين كان أولها ” النزهة بين شرائح اللهب” .
أضف إلى أوجه الشبه بين ماريتشي والمصري تلك الروح المتقاربة في الرؤية الروائية الفلسفية للأحداث رغم إختلاف مفرداتها وشخوصها وتفاصيلها في الروايتين . وإنما مانقصده تلك الرؤية التفكيكية ــ إذا جاز التعبير ـ لإعادة البناء الذي قد يفلح في خلق عالم جديد للشخصيات والحياة .
في الفصل الأول تتبع الرواية السلوكيات الخارجية والداخلية لابطالها فيسهل للقاريء والباحث على السواء تفسير القضايا الكبيرة والتحولات المجتمعية من خلال سلوك الأفراد الذي يبدو وكأنه حالات فردية.. إلا أن التغيير يتم دون تخطيط مستقيم أو متواز وإنما بطريقة ” الزجزاج” كما أسلفنا .
تلخص شخصية خليل الفاشل دراسيًا هذا السلوك، حيث تتضافر البساطة الساذجة والتعقيد النفسي المتمثل في النرجسية الجوفاء والاعتزاز الكاذب بالنفس.. بعد أن رأت البنت الجميلة سماح ذات الـ 17 سنه الزواج منه إفلاتًا من مقصلة الفقر؛ وموافقته على استكمال دراستها الجامعية على غير عادة هذا النوع من الرجال ،ليس بحكم العقل وإنما تهميشًا لأخيه الجامعي بأنه وهو غير المتعلم يمتلك زوجة جامعية . لينمو ويتضخم داخله الوهم الكاذب الذي يلتذ به..في الوقت ذاته جعل خليل أكبر همه الثراء من خلال سرجة الزيوت التى تمتلكها العائلة للولوج لعالم جديد فسيح بعيدًا عن هذا الدخل المحدود، ومن هنا اشتعل الصراع في نفسه الطموح الجموح .
يقول المؤلف: ” انتقل خليل من الفقرنحو الثراء بسرعة ، ولكن ضعف رصيده العلمي جعل المال الذي بيده قوة يبطش بها، ومع التقدم في العمر، تحولت متعته نحو توظيف هذا المال في العبث مع النساء، كأنه يريد أن يعوض النقص في نفسه، بثقافة اشباع الرغبة.
لنخرج من الفصل الأول بعدة عناوين أو قل ملامح..أهمها الأصول التركية العائلة.. الأب الذي يشتاق لعودة الثراء القديم المفقود، للعائلة ، الابن خليل الذي لايطيق التعليم ولا التفكير، لكنه يطمح للثراء وفقط ، سماح ابنه عمه المتوفي ، الطالبة التى تعشق القراءة والثقافة على غير عادة الحسناوات .. قرار خليل الهجرة إلى القاهرة فهى مدينة الثراء من وجهة نظره .
وتضعنا تضاريس الفصل الثاني على منحى آخرللنفس البشرية ،فنرى
سماح التي كانت صامتة مستسلمة تتكلم، وكأن دراسة الفلسفة أو انزياح سوط الفقر عنها قد أكسبها لغة جديدة :” زوجي الذي اختاره الفقر لي” .
ويحدث في أحدى رحلاتهم الترفيهية أن تدخل للبحر وحدها في الصباح الباكر حتى كادت تغرق ، تقول: ” لوحت بيدى في الفضاء بشكل عشوائي، البحر أصم، والماء مشغول بنفسه، والرياح لاتذعن للكائنات الصغيرة مثلي” ويحدث أن ينقذها شاب وكأنه مبعوث القدر، فيحملها على ظهره إلى حيث الشاطىء ثم يودعها ويمضي.. فنراها بعد أن زايلها التعب تغزوها تفاصيل لذة التفاعل بملامسة جسدها لظهر الشاب المنقذ ، لنكتشف أنه ليس جوعًا جسديًا ، فزوجها خليل يجتاحها بشكل يومي مثل وحش كاسر يفترس غزالة رقيقة ..وإنما حنينًا إنسانيًا جعلها تندم لعدم تعرفها على الشاب،الذي طبع ملامسة جسدها المحمول على ظهره لجسده لذة لاتقارن، رغم كثرة اجتياح خليل لجسدها، خليل الذي لايحفل بالعدد إلا أمام خزينة صراف البنك ، على حد وصفها!
في الفصل الرابع يغوص المؤلف في شخصية سماح، تلك التركيبة المتكررة في دنيا القسوة بشكل أو بآخر، يقول :
” نعم سماح تكره الكذب مع الآخرين، إلا أنها تدمن الكذب مع نفسها ؛ لتتلاءم مع أمواج الأفكار العالية التي تضرب ماشبت عليه، ولهذا فهي تسافر كثيرًا وهي في سريرها، حتى أنها تصارح خليل بما لايفهم “!.
غرفة واحدة بل سرير واحد يجمع بين نفس شفيفة تعشق الحياة بطريقتها الإنسانية، ونفس لاتعشق إلا الأموال ومواقعة النساء بغلظة ؟
الحقيقة هي مشكلة المشكلات التي تمتليء بها المحاكم الشرعية في بلاد الشرق ، مشكلة الكثيرات، ولعل أكثر حالات الطلاق تأتي من هذا الإغتراب الذي فرضه الفقر تارة والعادات والتقاليد تارة أخرى .
هنا تتجلى فلسفة ” الزجزاج ” فنرى مشكلة صاحب المسدس والرتبة الرسمية ـــ المُقدم المفصول من الخدمة ـــ مع زوجته الطبيبة “. هامش يزيد حالة الإغتراب شرحًا وتوضيحًا .
أيضًا لاتتجلى تلك الفلسفة التفكيكية في العلاقات الزوجية فقط وإنما في ملامح وروح ابن خليل وسماح وكأنه نسخة من ابن صديق” النادي” الذي قتله أبوه بطريق الخطأ وهو يحرك السيارة ، وعرض الصداقة عليه وكأنها محاولة جادة لتبني الولد الشبيه عاطفيًا.
ويواصل المؤلف بنعومة وسلاسة شعرية رسم تفاصيل شخوص روايته المدهشة ” كوتشينة”، فنرى صفوت الاعلامي الذي كان يأمل أن يكون صيدلانيًا يمارس الادب إلى جوارالصيدلة، ذلك المختلف مع زوجته التى لاتطيق الثقافة ولا المثقفين .. وعودته إلى صندوق ذكريات الطفولة وكأنها المتعة الوحيدة التى لايمل منها .. بينما زوجته المتسلطة التي أغلقت عليها باب غرفة النوم كعقاب له لأنه ببساطة يعشقها . نراها هى الأخرى تفتح صندوق ذكرياتها ولكن بشكل مختلف..فهى الآن تمتلك غرفة نوم كاملة بعد أن كانت تنام على “الكنبة” القديمة الفقيرة في بيت والدها إذا جاز أن يسمى بيتًا، رغم ذلك كانت مذ صغرها تتقمص دور الملكة التي يجب أن تطاع .. لنكتشف أو ليكشف لنا المؤلف بأن لكل منا صندوقه الأسود أو الوردي .
اسمع لتذكارت شيماء ” الملكة” المزيفة التى تملك سريرا وغرفة نوم رائعة بعد أن كانت تنام على كنبة قديمة في صالة بيت أبيها! تلك المتغطرسة زوجة صفوت الإعلامي المستسلم لعشق جمالها..تقول:” أيقنت أن صفوت حين يراني يهتز، ويلتذ، وينسي كل الفوارق، وأنا أتربص بالأيام؛لأعوض مافاتني من عز ومال، فأنا أملك ثروة الجمال.. كما قال لي ذات يوم : أنتِ رائعة الجسد والساقين. ولم يخطر ببالي أن أقول له: سمعتها كثيرًا من غير.
صفوت الذي يكتفي بأن يراها سيئة وفقط ، لنكتشف بأن كل ظالم أومظلوم يرى الشريك الآخر بشكل رديء، ويرى الحل في الهروب الى صندوق ذكرياته حتى لوكانت زائفة إذا أراد استمرار الحياة في بيته.. فالحل الآخر يفتح بوابة الجحيم في أغلب حالاته ، سواء الإنفصال النفسي والجسدى أوالغوص في بحيرات ربما تكون آسنة، بوهم قصة حب جديدة كما أشارت الرواية.
الطريف في ” كوتشينة” أن جميع اسماء فصولها وعددهم سبع وعشرين فصلًا تبدأ بكلمة” لكن”: لكن قيثارة الماضي تثرثر، لكن سماح كالبحر، لكن المبشرات خانقة، لكنه القلق، لكن العالم مجرد حجرة .
وهكذا وكأنما أراد المؤلف أن تشمل حالة التجريب العناوين أيضًا.. ورغم ذلك تبدو وكأنها ضرورية لنسيج العمل الروائي .ملمح آخر وهو الزمن الدرامي في الرواية أو الزمن الفني ، فنرى فصلًا مطولًا زمنه عدة أشهر وفصلًا من صفحة واحدة إلا قليلًا يفرش زمنًا طويلًا، مثال ذلك الفصل التاسع ” لكنها مجرد أيام” ، تطل علينا سماح بفلسفتها وتأملاتها التي لاتفارق رأسها :” الأيام المتشابهة تصنع بشرًا متشابهين، ننتظرالحياة، وهي لاتنتظرنا، وقد يطول بقاؤنا على بابها؛ حتى تنتهي مسرحية الوجود”
لسنا بصدد عرض أدبي لفصول رواية رائعة فذلك يظلمها ويظلم القاريء لأن الروايات ليست حكايات وحواديت ولكنها في حقيقتها فكر وفلسفة وحياة ومجهود كبير من المؤلف تدثر فيه بكثير من المعارف التي ألبسها ثوب الحكايات لتبدو شقية ذات علاقة حميمية بالقاريء ..ولذا فالقراءة المباشرة هى المتعة الحقيقة والفائدة الجمالية ولذا فالدعوة لقراءة ” كوتشينة” واجبة .. لماذا؟ أقول ذلك لأن هناك قضايا فلسفية شائكة تناولها المؤلف تحتاج منا التفكير بعمق قبل رفضها أو الموافقة عليها ليس مجال عرضها الآن .
خلاصة مانود قوله أن أديبنا الكبير نشأت المصري طاف بنا في عوالم متباينة تبدو متناغمة ، ذات سطح هادىء كصفحة نهر النيل لكنها تحفل بدوامات كثيرة مثل باطن ماء النيل كما أخبرنا من خَبروه، حتى وصل بنا إلى المأزق العالمي الذي ارتعب له وبه الجميع؛ من أفقر مخلوق لايجد قوت يومه إلا بشق الأنفس، وحتى من يسكنون القصور المشيدة ويمتلكون الأسلحة المهلكة ،. وهو وباء فيروس كورونا ، وبشكل عبثي يليق بالوباءومايفعله جاء فصل بعنوان ” ولكنها تباشير القيامة ” ليرصد اجتماع موسع للفيروسات الكورونية وبينهم كورونا بطل الكارثة بطبيعة الحال كواحد من الفريق، استعرض كل منهم مافعله ومااستهدفه من الدول الكبرى والشخصيات التى تتدعي حُكم العالم والتحكم فيه ومقدرتهم على إبادة من يرغبون وهم كالفئران المذعورة..
جدد الفيروسات القسم بأن يحولوا العالم إلى سجن كبير، وفي لمحة فلسفية لطيفة سأل أحد الفيروسات: من صنع كورونا الصين أم أمريكا؟ فقال كبيرهم: الاشكالية هنا أن المصنوع لايرى الصانع .. وكأنها لمحة صوفية . وهكذا ” سرح” بنا المؤلف في فانتازيا تليق بالحدث الجلل العبثي، ولم ينس خيبة العرب حتى في نظر الفيروسات القاتلة، قائلًا على لسان أحدهم: الأعجب من ذلك مدى بلاهة العرب الذين يتحاربون الآن في اليمن وليبيا !
وكم كان المؤلف داهية حين أشار دون أن يصرح مابين فكر الفيروسات القاتلة وأفكار قادة الدول القاتلة : حين اقترح الفيروس الذي دمر حياة كارلوس ــ أحد الشخصيات ــ أن يصلح خطأه لأنه تسبب في يُتْم ابنته زينب.. واشفاقًا منه عليها خشية عذابها في الحياة بعد أبيها اقترح قتلها لتستريح من المعاناة .
وكم كان لطيفًا بتلك العبثية أن يقول الراوي :” إلا أن رولاــ أحدى الشخصيات ــ لم تخف كراهيتها لي ـــ أنا الراوي الذي صحبكم أثناء الرواية ـــ تتهمني أنني اخترت مقتل كارلوس دون غيره، وقد أقسمت لها أنني مجرد مصور، يحمل كاميرا الكلمات، فأسجل مايجرى دون تدخل مني . لكنها لم تصدقني.” تمامًا كما يستأسد الضعفاء أو الأبرياء فيدون بعضهم البعض وكلهم ضحايا لو يعلمون .
يبقي في تلك العجالة النقدية أن نشير إلى ختام المؤلف الذي يليق بالرواية وتفردها، بشكل عبثي ملغز يليق بكوتشينة، في فصل عبارة عن سطر ونصف السطر فقط لاغير، تحت عنوان ” لكنه أكذوبة” يقول: ” قيل: سيكون العالم مختلفًا بعد كورونا، وتتغير الفصول، وتختفي أكذوبة الفصل الأخير في حضور الحياة “.
ثم ترك لنا أن نخمن مقصده الفني والروائي .