عندما تتساقط الأسماء كأوراق الشجر، أسماء الأصدقاء تتهاوي من الذاكرة، فلا تقوي على تذكر الاسم الثاني أو اللقب عندما تصبح صور الأشياء فى الماضي باهتهً باليةً لا تقوي على رتقها، شريطٌ تستعيد به الأحداث، عندها يكون الخريفُ قد هجم، خريف العمر، وقد زحفت على صفحاته بداياتُ النهاية المحتومة الموت.
لا شئ بقي من ملامحها . لا شئ لم يتغير سوي العيون البراقة، عيونها، عيونها بصحوتها المعتادة، عيونها فقط حين التقت بأعيني كانت كما هي عيوناً شفافة ترصد الذكريات والزمن البعيد، سبح الماضي أمام ناظري حلقاتٍ متداخلةً متشابكةً فى ثوانٍ قبل أن أبادرها بسؤالي
- حضرتكِ، حضرتكِ وفاء ؟؟؟
لم أبالِ كثيراً بردّها، فقد كنت واثقا أنها هي برغم كل هذه السنوات، ورغم أن ما بقي فى ذاكرتي من قصتنا لا يكاد يكمل سطراً على الورق، ورغم أن الزمن قد اغتال ملامحَها الجميلة فصار العجز فى الخطوة والترهل في الوجه و بياض الشعر، كل شئ فيها هزمه الزمن إلا عيونها الخضراء مازالت تزرع الأمل فتحيي الذاكرة و تنبش الماضي لتحضره شاخصاً أمامي فى لحظات.
سألتْني - أنتَ ، أنتَ..؟؟
لم تنتظر ردي فكانت على ثقةٍ أني هو كانت تعرفني بابتسامتي التي كست وجهي لرؤيتها كانت دائما تقول - ابتسامتكَ بلسمٌ يزيل أوجاعَ الزمن و همومَ العمر وكانت تردد
- عرفتك روحي قبل أن أراك شممتك أريجاً فواحاً عطر أيامي قبل أن تتلاقى عيوننا
وكانت تقول أيضاً - سمعتك نغماً يداعب آذاني و يحيي رُوحي
بادرتني بقولها - زالت عنك غضاضة الشباب و اكتست ملامحك بنضارة الهرم ووقار الزمن، كلماتها خرجت متدفقة دافئة مغمورة بالحب والإعجاب فلامست شغاف قلبي وأحسست أن شيئاً لم يتغير فى قلبها.
قلت لها غير مصدق أني التقيتها - بحثت عنك كثيراً وكثيراً، كنت أدرك أني يوماً ما سأراكِ لأبثَّ أشواقي إليكِ، لأصلح ما أفسده الزمن، لأشرح لك ما حدث ولماذا افترقنا، بانت أجسادنا وظلت أرواحنا متعانقة، معذرةً لم يبقَ فى ذاكرتي شيءٌ أشرحه لكِ، ذابت فى دهاليز العمر كل الحكايات، لم يعد هناك شيء إلا ان أطلب السماح.
سحبت يدها من بين يدي فجأة، لتمسك بفتاة صغيرة أقبلت ناحيتنا. - جدتي جدتي أبي يستعجلك فقد طلب الطعام وبدأ العاملون بالمطعم في تجهيز الغداء ..من هذا يا جدتي
قالتها وأومأت إلي
نظرت وفاء إلي حفيدتها ثم إلى شجرة عجوز على ناصية المطعم الذي جمعنا القدر قُبالته مصادفةً، نظرت إلى أوراق الشجر المتساقطة على الأرض بفعل الخريف ، وابتسمت قائلة - ورقة جافة سقطت من فرعها
ثم انسحبت متأبطة حفيدتها و مضيت أنا أحاول أن أجمع أوراقي لأشرح لها أو أبرر ماحدث دون جدوى، فقد سقطت كل الأوراق ، وجف الشجر .
قصة قصيرة