لقد حرص القضاء الاداري العراقي والمقارن على مكافحة الارهاب الفكري ، وعلى الرغم من قلة الاحكام في هذا الخصوص إلا انه يعد من المسالك الحميدة للقضاء من اجل القضاء على مثل هذه الظواهر :
حيث ذهبت الهيئة العامة لمجلس شورى الدولة الى تصديق حكم محكمة القضاء الاداري الصادر بإلغاء القرار الاداري المتضمن منع نشر كتاب (الاديان والمعتقدات وجزاء الثواب والعقاب في الحياة الدنيا لكونه .. مفيد للقراء وانه يحذر المجتمع من غائلة ارتكاب الموبقات او مخالفة شرع الله … وانه ليس فيه ما يتقاطع مع مبدأ السلامة الفكرية او ما يشم منه رائحة الاخلال بنظام المجتمع وإحداث الشقاق والتفرقة بين شرائحه ويصلح للنشر ….. وقد أيد الخبراء المختصون ذلك امام المحكمة … لذلك يكون الاستنباط الذي توصلت اليه المحكمة سائغاً ويتفق مع الاصول المقررة قانوناً.
وعلى الرغم من قلة احكام القضاء الاداري العراقي الصادرة بهذا الخصوص , الا ان مضمون تلك الاحكام تدل على الإقرار من القضاء على مكافحة ظاهرة الارهاب الفكري والتي تعد تهديد للنظام العام في المجتمع ، ويكون مبرراً لتدخل سلطة الضبط ، حيث يعد اتجاهاً جديراً بالاحترام ومسلك محمود من القضاء ، لكونه يتطابق وأحكام القانون ، وكذلك فأنه يتطابق مع المبادئ والأعراف والتقاليد السائدة في المجتمع العراقي .
أما في القضاء المصري ، فقد قضت محكمة القضاء الاداري بمشروعية القرار الصادر من مجلس الوزراء بمصادرة كتاب (الفرقان لابن الخطيب) ومنع تداوله في مصر ، وذلك بناء على طلب الازهر وشيخ المقارئ المصرية ، وذلك لأنه (لا يشترط ان يقع بسبب التعرض للدين تكدير للسلم العام فعلاً ، بل يكفي ان يكون من شأن التعرض حصول هذا التكدير أي يكون ثمة احتمال ان ينشأ عنه ويترتب عليه كما ان هذا التكدير لا يلزم ان يكون مادياً بحدوث شغب او حصول هياج ، بل يكفي ان يكون معنوياً بإثارة الخواطـر واهاجة الشعور
وقد استمرت احكام القضاء الاداري المصري على الاعتداد بذات الاتجاه بأحكامه اللاحقة ، حيث رفضت محكمة القضاء الاداري الطعن المقدم تجاه القرار الاداري الصادر بمصادرة كتاب (الدين والضمير) لكون (الكتاب على هذه الصورة فيه مناهضة للنظام العام الذي من أخص عناصره الدين , كما فيه اخلال بالآداب العامة , ومن ثم اذا اصدر مدير عام الرقابة قراره بمصادرة هذا الكتاب بالتطبيق للإحكام السابقة , فان القرار يكون قد صدر ممن يملكه في حدود اختصاصه وقائماً على اسباب جدية مستمدة من اصول ثابتة في الاوراق التي توصل اليها مستهدفاً المصلحة العامة لحماية العقائد السماوية التي هي من النظام العام , وحماية الآداب العامة ، وبالتالي فهو قرار سليم ومطابق للقانون.
كما ذهب القضاء الإداري المصري إلى القول بأنه ( ليس من شك أن إقامة الشعائر الدينية للأفراد أو للجماعات علانية أو في غير علانية مباحة للجميع وتحمي الدولة حرية القيام بها طبقاً للعادات المرعية في الديار المصرية على ألاّ يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب طبقاً للمادة الثالثة عشر من الدستور وقضت محكمة القضاء الاداري المصرية في حكم آخر على انه (يُعدّ مساساً بالنظام العام تأليف الكتب او القاء المحاضرات التي تحض على الالحاد والإباحية في المجتمع الذي يتمسك بتعاليم الاسلام
كما جاء في حكم لمحكمة النقض المصرية في قضية الدكتور( نصر حامد ابو زيد ) وهو استاذ اللغة العربية والدراسات الاسلامية في كلية الآداب في جامعة القاهرة ، حيث سخر الشخص المذكور من بعض نصوص القرآن الكريم ومبادئ الاسلام وهو يلقي بمحاضراته على الطلبة ، فقررت محكمة النقض بان الدستور يكفل في المادة (41) منه حرية الرأي في حدود القانون ، فحرية الرأي تكون وفقا للضوابط والحدود التي يسمح بها النظام الاساسي للدولة والقواعد التي يقوم عليها هذا النظام وفي صدارتها احكام الشريعة الاسلامية ولو انه احتفظ باعتقاده في سريرة نفسه دون الاعلان عنها تلقائيا لطلبته وطبعه ونشره ،
فان الشريعة لا تفتش في مكنون النفس او تشق القلوب ولا تنقب في سرائرهم لان ذلك متروك لله وحده ، إلا ان الجهر بالسوء من القول طعنا في عقيدة المجتمع والدعوة الى ازدرائها يتصادم مع النظام العام وهو مالا يقره أي تشريع او نظام.
وهذا ما اكدته محكمة القضاء الاداري المصرية في حكمها القاضي بمنع توزيع كتاب بقولها (ان المدعى في كتابه انتحى ناحية تخالف الدين وتعاليم وأحكام الشرع بان اورد فيه ما يعتبر دعوى الى الالحاد وعدم الاعتداد بالأديان السماوية وان فيه من اخطاء فاحشة وزلات لا تحمل ..وكتاب على هذه الصورة فيه مناهضة للنظام العام الذي من اخص خصائصه الدين كما فيه اخلال بالآداب العامة
أما عن موقف القضاء الدستوري فلم نجد أي قرارات يمكن اضافتها عن دور هذا القضاء في مكافحة ظاهرة الارهاب الفكري سواء أكان القضاء الدستوري العراقي أم المقارن .
الخاتمة
في ختام بحثنا يمكن القول بأننا قد توصلنا الى بعض النتائج ، وارتأينا ذكر بعض التوصيات التي نعتقد أنها ذات اهمية ودور في القضاء ومكافحة الارهاب الفكري ، وبذلك نقسم الخاتمة الى قسمين اساسيين : النتائج والتوصيات
أولاً : النتائج
من أهم النتائج التي توصلنا اليها من خلال بحثنا هي :
- إن حرية التفكير والفكر هي واحدة من أهم الحريات الممنوحة للإفراد سواء بموجب المواثيق الدولية أو التشريعات الوطنية ، إلا ان هذه الحرية لا يمكن تركها على اطلاقها من دون تنظيم ، فترك ممارسة الافراد لهذه الحرية يمكن ان تؤدي الى المساس بحقوق سائر الافراد والطوائف ، وكذلك فأن وضع قيود شديدة على ممارسة الافراد لهذه الحرية سوف تؤدي الى منعهم من ممارسة حقوقهم ، فيمكن اللجوء الى فرض رقابة على ممارسة هذه الحرية ، أي يجب التوسط بين المنح والمنع وذلك من اجل مصلحة الافراد والمجتمع ، وبالتالي حفاظاً على النظام والأمن من تعرضه للإخلال به .
- إن حرية التفكير والتعبير هي حرية واسعة وذات مضامين متعددة فهي تشمل حرية التجمع والمظاهرات وإلقاء المحاضرات والندوات ، وبالتالي لابد من القاء الضوء عليها ووضع تشريعات تحيط بها تنظيماً .
- مفهوم الارهاب الفكري هو مفهوم واسع ومتشعب وذلك من خلال بحثنا في انماطه و اساليبه وملاحظة مدى تأثير هذه الاساليب في تفاقم هذه الظاهرة أو انحسارها .
- إن ارتباط الارهاب بالفكر هو ارتباط وثيق ويعتمد على تفكير الانسان ومدى سلامته من آفة التطرف والعنف ، فمتى كان تفكير الانسان سليم وناضج تضاءلت بل انعدمت ظاهرة الارهاب الفكري وبالعكس ، فعندما يكون مرض الانسان في جسده قد يتسبب في موته ، أما عندما يكون مرضه في تفكيره فبهذا يتسبب في تسمم المجتمع ككل وانحطاطه .
- يرى البعض أن هناك ربط بين الارهاب والدين ، إلا انه في حقيقة الامر لا يوجد ربط بينهما إلا من خلال الاشخاص انفسهم ، حيث أن تشدد بعض الاشخاص في الامور الدينية والابتعاد عن الاعتدال والتوسط في الدين هذا الآمر يدفع الى ظهور الارهاب الفكري ، كما أن الرموز الدينية ومن خلال خطاباتهم المتطرفة أو المحرضة على العنف والطائفية دور في ظهور هذه الظاهرة وفي تقلصها ايضاً .
- إن التحريض على العنف كونه يُعدّ من اساليب وأنماط الارهاب الفكري يكون من خلال عدة وسائل منها وسائل الاعلام بشكل عام ، وذلك لما للإعلام من سلطة وتأثير على النفوس والأذهان بًعده السلطة الرابعة من السلطات في الدولة .
- إن الاساءة الى حرية التعبير عن الرأي من اكثر الاساءات التي تدعو المجتمع الى النهوض ومواجهتها بكافة الوسائل والأساليب الرادعة ، لما لهذه الحرية من أهمية كبيرة ، ما لم يكون فيها مساساً بالنظام العام في المجتمع .
- إن الاديان والمذاهب والرموز الدينية هي من اكثر الامور قدسية عند كافة الافراد على اختلاف الطوائف التي ينتمون اليها ، وبالتالي فان المساس بها أو تعريضها الى الاعتداءات والإهانات ، هذا يعني قيام حروب طائفية واقتتال بين افراد الطوائف المختلفة ، أي انها تؤدي الى إثارة ظاهرة الارهاب الفكري .
- إن مناهج التعليم ممكن ان تكون احد الاساليب التي من خلالها تبدأ بوادر الارهاب الفكري وتؤدي الى تطويره مستقبلاً .
ثانياً : التوصيات
بعد التمعن بموضوع (اساس مكافحة الارهاب الفكري ) ، نقترح عدد من التوصيات التي نعتقد بأهمية مراعاتها والأخذ بها وهي كالآتي : - إن للإرهاب الفكري العديد من الانماط والأساليب والتي لم يتم تنظيمها بقواعد قانونية محددة على الرغم من اهمية تنظيمها بالقضاء على هذه الظاهرة الخطيرة ، حيث ان قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل ، وكذلك قانون مكافحة الارهاب رقم 13 لسنة 2005 ، لم يتطرق الى مكافحة الارهاب الفكري إلا بفقرات محدودة ، مع العلم ان الارهاب الفكري هو اخطر من الارهاب المادي بل هو السبب الاساسي في ظهور هذا النوع من الارهاب ، وبالتالي نوصي المشرع العراقي بوضع تشريع خاص لمكافحة الارهاب الفكري على اختلاف اساليبه وأنماطه ، وأن يكون هذا التشريع جامع ومانع لكل هذه الاساليب والصور .
- يجب قيام الجهات المختصة وذات العلاقة بالحث على التوسط في الدين والاعتدال فيه وذلك لان التطرف هو واحد من ابرز انماط الارهاب الفكري ، وهنا يبرز دور سلطات الضبط الاداري بالتدخل في وضع رقابة على الاوضاع الدينية للأفراد ، وذلك لان الاسلام يدعو الى الوسطية ، ومن ثم ظهور علامات التطرف لدى الافراد امر يدعو تلك الهيئات بالتدخل والحد من هذا التطرف .
- يجب وضع رقابة علمية على مناهج التعليم ، وكذلك مواكبة التطورات السائدة في المجتمع من خلال تجديدها ، ووضع كل القيم والمبادئ الدينية والوطنية التي نرغب في زرعها في نفوس ابنائنا ، والابتعاد عن زرع الحقد والعنف والطائفية .
- ندعو رموزنا الدينية والذين هم قادة المجتمع لما لهم من تأثير على نفوسنا ، الى ان يجعلوا من خطاباتهم ومنابرهم اداة للقضاء على الارهاب الفكري ، وذلك من خلال توعية الافراد بعدم السماح لآخرين بفرض آراءهم عليهم أو التخلي عن حريتهم في التفكير والرأي والتعبير عنها ، وكذلك الابتعاد عن اثارة الفتن الطائفية ، وذلك لان مساس الرموز الدينية بأحد الطوائف يؤدي الى زرع الطائفية بين الافراد .
- لما كانت وسائل الاعلام هي واحدة من الوسائل التي تدعو الى التحريض على العنف و اثارة الفتن الطائفية ، وبالتالي هي من الوسائل المؤججة لظاهرة الارهاب الفكري ، فلذلك لابد من وضع قيود ورقابة شديدة على هذه الوسائل وفرض جزاءات شديدة على الاذاعات والقنوات المحرضة على العنف والطائفية .
- استحداث جهات رقابية تتولى الرقابة على وسائل الاعلام والأفلام والمصنفات السينمائية وعدم جواز النشر أو البث إلا بعد تأييد الجهات الرقابية .
- قيام دواوين الاوقاف بإصدار التعليمات الازمة لمراقبة الخطب والمحاضرات الدينية واتخاذ العقوبات بحق الخطب أو المحاضرات التي تحض على الارهاب الفكري .
- الاسراع بتشريع قانون لتجريم الطائفية اذ ان هناك مشروع قانون بهذا الاتجاه تم من خلال قيام مجموعة من الشباب في الجامعات العراقية بجمع التواقيع الخاصة بتشريع هذا القانون .
- تفعيل دور هيئة الاعلام والاتصالات باعتبارها الجهة الرقابية على القنوات الفضائية بصورة خاصة وعلى الاتصالات بصورة عامة من وسائل الانترنيت ، واتخاذ الاجراءات الازمة بحق وسائل الاعلام المحرضة على الارهاب الفكري .
10.استحداث مؤسسات ادارية خاصة معينة بمكافحة الارهاب الفكري ، وتخويلها الصلاحيات اللازمة لاتخاذ الاجراءات والتدابير الوقائية لمنع هذه الظاهرة التي هي تمثل مرضاً خطير ينهش في جسم الدولة ويؤدي الى تفتيتها .
11.وضع التشريعات اللازمة التي تمكن المؤسسات الدينية والإعلامية والمؤسسات ذات العلاقة بفتح الحوار بين الاديان والمذاهب الاسلامية ، ولتجريم الافكار الطائفية والتي تدعو الى تكفير الآخرين .