الإعلامي البارع هو الذي تؤهله ملكاته للجمع بين السبق والمصداقية معًا
وأُحيي كل إعلامي أو صحفي يتخذ من المصداقية خطا ثابتا
أكتب في هذا الموضوع بصفتي ناقدًا أديبًا لطالما درّس لطلابه في مرحلة الدراسات العليا أصول النقد الأدبي والعلمي والصحفي والمسرحي ، ونقد المقالة والرواية والقصة والأقصوصة .
والمجال الإعلامي الذي أعنيه هنا هو المجال الأوسع الذي يشمل العمل الإعلامي بصوره المختلفة : مرئيًا ، ومسموعًا ، ومقروءًا ، واقعيًّا كان أم إلكترونيًا .
ولا شك أن العمل الإعلامي يُقيَّم من خلال معايير مهنية متعددة من حيث الشكل ومن حيث المضمون : لغة ، وتصويرًا ، وإخراجًا فنيًا ، وأداء صوتيًا، وتعبيرًا جسديًا ، ناهيك عن فنون التحليل إلى غير ذلك من عناصر التقييم والعناصر المصاحبة لكلفن من فنون الإعلام على حدة ، غير أنني اخترت عنصرين من القواسم المشتركة في العمل الإعلامي بصفة عامة هما :السبق والمصداقية ، فإذا كان السبق يتعلق بعنصر الزمن فإن المصداقية تتعلق بعنصر التحقق والتثبت ، والإعلامي القدير هو الذي تؤهله ملكاته وعلاقاته ومصداقيته مع نفسه ومع مصادره ومع المجتمع من أن يجمع بين العنصرين بكفاءة ومهارة دون أن يأتي أحدهما على حساب الآخر ، غير أن ذلك الأمر ليس بالأمر السهل الهين ، ولا يكاد يتأتى إلا لكبار الإعلاميين المحترفين الجادين الذين يتعبون على عملهم ويسهرون عليه وينقطعون له ، ويتفانون فيه بحب وصدق ومهنية وإخلاص .
وقد حدثني أحد كبار الصحفيين من الجيل الحالي بأنه نشأ في مدرسة تسعى للسبق غير أنها لا يمكن أن يأتي سبقها على حساب المصداقية أبدًا ، حتى قال نقلاً عن أحد أساتذته من عمالقة جيل الصحفيين الكبار أنه قال لهم وهم في مستهل عملهم الإعلامي : لأن يفوتك مائة خبر خير من أن تَسبِقَ بخبر لا أصل له ينال من مهنيتك ومصداقيتك ، ويكف سلبًا أن يقال : إن فلانًا لا يعول على أخباره ، وإيجابًا أن يقال إن فلان يُعَضّ على أخباره بالنواجذ، إن قال صدق ، وإن فعل أصاب ، فهو لا يخمن ، إنما له مصادره الدقيقة ورويته ونظرته الثاقبة ، حتى لو كانت تحليلاته مجرد استنتاج فهي قراءة واعية للأمور والأحداث ، فهو صاحب مصداقية وصاحب رؤية معًا .
وقد حثنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) على تحري الصدق فقال : “وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا” ، وإذا كان التاجر الأمين الذي يتحرى الحلال مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين لصدقه وأمانته وتحريه الحلال ، وليس ذلك بالأمر السهل ولا الهين ولا اليسير لأنه يقاوم نفسه وحب المال مقاومة جادة يؤثر الآخرة على الأولى والباقية على الفانية ، وهو أوثق بما عند الله (عز وجل) منه بما في يده ، فإن مفهوم الموافقة الأصولية يجعلنا نستنتج أن كل من يصدق ويتحرى الصدق هو أيضًا مع الصديقين لما في تحري الصدق من ضبط كبير للنفس ، وإذا كان الأمر يتعلق بالعمل الإعلامي فإن تحري الصدق يحتاج إلى جهد كبير وجبار ، ليحقق الإعلامي الصدق والسبق معًا ، مما يجعل جزاء صدقه وتحريه ، وخدمته لدينه ووطنه عظيمًا عند الله (عز وجل) ومشكورًا عند الناس .
إن الكلمة أمانة عظيمة ومسئولية كبيرة ، فالكلمة الطيبة الصادقة ” كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ” ، أما الكلمة غير المسئولة فهي كلمة خطيرة ، قد تكون مهلكة لصاحبها، وقد يتجاوز أثرها السلبي حدود قائلها إلى آفاق أوسع ، فتصبح ذات أثر بالغ على المجتمع أو الوطن بأسره، مما يتطلب من المتحدث – ولا سيما في قضايا الشأن العام – غاية الدقة والتخصص ، والتثبت والتحري ، فالتسرع أمر خطير ، حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : “كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع” ، أي دون أن يتحقق أو يتثبت من صحته .
وإذا كان الإنسان حرًا في التعبير عن رأيه ، فإن هذه الحرية يجب أن تكون حرية مسئولة وليست مطلقة ، حيث تقف حرية كل إنسان عند حدود حرية الآخرين، وقد قالوا : “أنت حر ما لم تضر” ، والقاعدة الشرعية والقانونية والوطنية والإنسانية معًا أنه ” لا ضَررَ ولا ضِرارَ”.
وختاما أؤكد أن الإعلامي البارع هو الذي تؤهله ملكاته للجمع بين السبق والمصداقية معا ، وأُحيي كل إعلامي أو صحفي يتخذ من المصداقية خطا ثابتا.