تنبه مفكرون كثيرون إلى خطورة الخلافات بين أصحاب المذاهب الإسلامية، وحاولوا التقريب بينها حتى لاتتحول الخلافات إلى صراعات، ومن أبرز تلك المحاولات كتاب ” إسلام بلا مذاهب ” الذى أصدره عام 1960 الدكتور مصطفى الشكعة أستاذ الأدب والفكر الإسلامى، والعميد الأسبق لكلية الآداب بجامعة عين شمس ( 1917 ـ 2011 )، ثم توالت طبعاته فى لبنان ومصر، وأصبح عمدة فى مجاله، ومرجعا لكل من يتصدى للكتابة فى قضية المذاهب .
وقد أكرمنى الله تعالى بالتعرف إلى المرحوم الدكتور الشكعة فى النصف الثانى من ثمانينيات القرن الماضى، فأهدانى آنذاك كتابه الرائع هذا فى طبعته السابعة الصادرة عام 1988، وهو من أهم الكتب التى تساهم فى تكوين الفكر المعتدل، بما يتميز به من عمق وموضوعية وروح متسامحة، تسعى إلى التقريب ونبذ الصدام .
ويهدف الكتاب إلى التعريف بالمذاهب الإسلامية من مصادرها، فينقل عن أصحاب كل مذهب مايقولونه عن أنفسهم، ملتزما بالموضوعية والحياد، وهى محاولة كانت جديدة ورائدة فى زمانها لتحقيق التعارف الإيجابى بين أصحاب المذاهب، وكانت أيضا تجربة واعية لتجنب نزعات النفس نحو الانحياز والافتئات على الآخر المختلف، وقد تضمن الكتاب عرضا لمذاهب أهل السنة والخوارج والشيعة الإمامية والإباضية والزيدية والإسماعيلية والدروز والعلويين والقاديانية والأحمدية والمعتزلة والسلفيين والمتصوفة .
يقول الدكتور الشكعة فى مقدمته: ” هذا الكتاب يستهدف الدعوة إلى وحدة الكلمة بين المسلمين ولم الشمل ورأب الصدع، وتضييق الشقة بين المذاهب الإسلامية المعتدلة من أهل السنة والشيعة الزيدية والشيعة الإمامية والإباضية، متمنين على الغلاة أن يفيئوا إلى كلمة الحق، وأن يعودوا إلى المصدر الأصيل الذى استقت العقيدة منه أركانها، واستمدت الشريعة منه أحكامها، بعيدا عن شطط التأويل وغموض التخريج، ذلك أن سمة الإسلام الأولى هى السهولة والوضوح، ودعامته الأصيلة هى الإيمان بالله ربا وبمحمد رسولا وبالقرآن كتابا، مع الاستظلال براية الأخوة والتآلف والمودة والتعاطف والمحبة والإيثار” .
وقد حظى الكتاب، لأهميته وجديته، بمقدمة طيبة من المرحوم الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهرالأسبق يقول فيها : ” لقد فهم المسلمون الأوائل روح هذا الدين الحنيف واختلفوا فى فهم نص من كتاب الله أو سنة رسول الله، ولكنهم ـ مع هذا الخلاف ـ كانوا متحدين فى المبادئ والغايات، ولم يكفر بعضهم بعضا، بل كانوا يدا واحدة على من عاداهم، ثم خلف من بعدهم خلف جعلوا دينهم لأهوائهم، فتفرقت الأمة إلى شيع وأحزاب ومذاهب وعصبيات، واستباح بعضهم دماء بعض، فذهبت ريحهم وتجرأ عليهم أعداؤهم وانتقصوا بلادهم من أطرافها، كل هذا ودعاة الفرقة سادرون فى غيهم لايدفعهم إلى هذا الطريق الشائك إلا أحد أمرين: إما الجهل بمبادئ الإسلام الصحيح أو الكيد لهذا الدين الحنيف، وقد لقى الإسلام على يد هؤلاء وأولئك مالقى من نكبات ومصائب، ولولا قوة تعاليمه وصفاء منبعه واتساق عقيدته مع الفطرة لحرمت الإنسانية من مزاياه وفضائله “.
ويقر الشيخ شلتوت بأن المستعمرين يبعثون من قيور التاريخ أسباب العداوة والبغضاء بين المسلمين، وينفخون فى نار قد خمد أوارها وانطفأ لهيبها، لأن أكثر هذه الأسباب قد أصبحت غير ذات موضوع، كل هذا لتبقى لهم الكلمة النافذة فى بلاد المسلمين، وقد تنبه المصلحون من المسلمين إلى الأضرار التى تحيق بدينهم وبلادهم جراء هذه الفرقة، فقاموا ينادون بوجوب وحدة الصف الإسلامى ونبذ أسباب الفرقة بين أبناء الملة الواحدة والقبلة الواحدة والعقيدة الواحدة، كانت الدعوة فردية فى أولها وتزعمها فى العصر الحديث أمثال جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده وغيرهما، ثم أخذت شكلا جماعيا، فكانت جماعة التقريب بين المذاهب التى جمعت نخبة من فضلاء الأمة الغيورين على وحدتها، وكان من أثر ذلك أن قررت مشيخة الأزهر أن تتوسع فى دراسة الفقه المقارن فى كلية الشريعة، حيث تتناول دراسة المذاهب المختلفة ومعرفة وجهة نظرهم فى الأمور الفرعية، وهذه خطوة طيبة نحو الغاية النبيلة التى يهدف إليها الإسلام، وهى أن يكون معتنقوه أمة واحدة، قد تختلف فى أفهامها، ولكنها لاتختلف فى أسسها وغاياتها .
وقد امتدح الشيخ شلتوت كتاب ” إسلام بلا مذاهب “، ووصفه بالأمانة العلمية وسلامة العرض والبعد عن التعصب الذى سار عليه أكثر من كتبوا عن الفرق الإسلامية، فأورثت كتاباتهم نيران العداوة والبغضاء بين أبناء الملة الواحدة، وكان كل كاتب لاينظر إلى من خالفه إلا من زاوية تسخيف رأيه وتسفيه عقيدته، ولهذا فمن أراد الإنصاف لايكون رأيه عن فرقة من الفرق إلا من مصادرها الخاصة، فذلك أقرب إلى الصواب وأبعد عن الخطأ.
وينطلق الدكتور الشكعة ـ رحمه الله ـ فى كتابه ” إسلام بلا مذاهب ” من أزمة المسلم المعاصر الذى يرى ماضى أمته مشرقا مضيئا بينما حاضرها ضعيفا هزيلا نتيجة حالة التفكك والتشرذم التى تعيشها، فهو يتألم من الواقع الذى صار إليه المسلمون، ويحاول أن يتعرف على الأسباب التى أدت إلى المفارقات الضخمة المؤسفة بين موقف المسلمين وحالهم فى أمسهم ويومهم، واهتدى إلى أن ضعف المسلمين جاء من تفرق كلمتهم وشتات شملهم نتيجة لتفرق المذاهب، وأن الاستعمار استغل هذه الثغرة فوسعها، حتى تحولت خلافات المذاهب إلى حروب بين الجماعات وبين الدول .
وقد وقف الدكتور الشكعة من المذاهب موقف الدارس الموضوعى المحايد، فأخذ معلوماته عن كل مذهب من أهله، وقدم هذه المعلومات إلى القارئ فى يسر وبساطة ولين، وعرض لها عرضاً تاريخياً وأدبياً وعقائدياً، ناظراً إليها جميعا نظرة علمية سمحة، مستهدفاً الإنصاف ما وسعه إلى ذلك سبيلاً، حتى يتخذ المسلمون على اختلاف مذاهبهم وفرقهم وطوائفهم الموقف الذى ينبغى أن يكونوا فيه، عن علم ومعرفة حقيقية، وليس عن توهم وافتراء .