فى خضم الأحداث المؤسفة التى نعيشها، والحروب والمواجهات العسكرية التى تحيط بنا من كل جانب، والمشكلات والأزمات الاقتصادية التى يعيشها العالم كله والتى تنعكس علينا وتؤثر بشكل مباشر على حياتنا اليومية.. انشغل أحد أساتذة الأزهر بشغل الجماهير بقضية تعديل أنصبة الوارثين المقررة شرعا والثابتة بنصوص دينية لا تقبل الشك أو التأويل لينشغل كثير من المصريين بالرد عليه وتفنيد مزاعمه، والرد على أفكاره.. العلماء يردون عليه من خلال مواقع مؤسسة الأزهر ودار الافتاء وبعض علماء الأوقاف.. والجماهير تواصل استنكارها للفتنة التى يسعى إليها من خلال مواقع التواصل الاجتماعى كما حدث خلال الأيام الماضية.
والواقع أن ما ردده الأستاذ المنتسب للأزهر من إشكاليات حول نصيب المرأة من الميراث لم يأت فيه بجديد، حيث ردد هذا الكلام من قبل، وردد آخرون بعض شطحاته ورد علماء الأزهر عليها ردا وافيا بالأدلة الشرعية.. ولكن- للأسف- لا تزال الرغبة لديه قائمة فى شغلنا بمزيد من الشطحات الفكرية حتى ولو كنا مشغولين بما هو أهم كما هو حالنا الآن.. وهو السلوك الذى فسره البعض بأنه مقصود ومرتب له لشغل المصريين عن قضيتهم الأساسية الآن وهى الالتفاق حول الوطن وقضاياه المصيرية فى ظل الأحداث المؤسفة التى تحيط بنا وما يحدث من حرب إبادة فى غزة والحرب الأهلية فى السودان ومشكلات وأزمات اقتصادية عالمية تؤثر فى حياتا بشكل مباشر.
لست معنيا هنا بالرد على ما طرحه هذا الأستاذ من أفكار لأن أى طالب فى الإعدادية الأزهرية يستطيع الرد عليها وتفنيدها وبيان ما بها من عوار فكرى.. لكن ما يعنينى هنا أن ننبه هؤلاء الذين يتبنون النبش فى كتب التراث القديمة بحثا عن كل ما هو شاذ وغريب لطرحه على الناس وشغلهم به بأن ما يفعلونه لن يغير شيئا على أرض الواقع، ولن يشكك جماهير المسلمين فى ثوابت شريعتهم المستقرة، ولن يدفع سوى المنفلتين من قيم الدين والمدمنين لمخالفة شرع الله للبحث عنه والترويج له.. فالغالبية العظمى من المسلمين فى مصر لا يثقون إلا فيما يصدر عن علماء الأزهر الراسخين فى العلم، والحمد لله لدينا مؤسسات دينية نفتخر بوسطيتها واتزانها وقدرتها على الاجتهاد الصحيح وتقديم كل ما يفيد المسلمين فى حاضرهم ومستقبلهم.
كنت- وما زلت- أتطلع الى أن ينشغل جميع العلماء والدعاة بتحذير الناس من ظلم وقهر يتعرض له كثيرون بحرمانهم من حقوقهم الشرعية فى الميراث وخاصة النساء اللاتى يواجهن “ثقافة جاهلية” لا تزال عالقة-للأسف- بعقول الكثيرين، وهى شكل من أشكال الظلم والاضطهاد تتعرض له بعض النساء ويتطلب جهودا توعوية وتشريعية لمواجهتها لوقف الجحود للمرأة بحرمانها من حقوقها الشرعية بفعل العادات والتقاليد الظالمة، خاصة وأن هذا الطمع فى ميراث الأنثى أصبح مصدرا أساسيا لمشكلات أسرية واجتماعية وأمنية تتزايد باستمرار.. فضلا عن قلب حياة المودة والرحمة التى تربط بين الأشقاء الى ظلم وقسوة وجفاء وقضايا ومحاكم.. وربما عنف وقتل.
منذ فترة سألت أحد الأصدقاء المحامين عن أكثر القضايا الأسرية والاجتماعية تداولا فى المحاكم من خلال عمله وعمل زملائه وخاصة فى المحافظات الريفية فقال بلا تردد أو تفكير” قضايا الحرمان من الميراث” وأضاف: لدينا قضايا رفعتها سيدات لا تجدن ما يطعمن به أبنائهن بعد وفاة الزوج عائل الأسرة، ومع ذلك يرفض الأشقاء منحهن ميراثهن، بل إن البعض يرفض أن يكون للبنت ميراث فى الأرض، ويساوموهن للترضية بحفنة من المال مقابل التوقيع على استلام حقوقهن لتحفظ القضايا وتهدر الحقوق للأبد.
صديقى المحامى يؤكد أن صرخات النساء من أشقائهن الجاحدين الناكرين لحقوقهن الذين أعماهم الطمع وأغواهم الشيطان لا تتوقف حيث تشهد جلسات المحاكم دموع وآلام بعض اللآتى أهدرت حقوقهن التى قررها الخالق سبحانه وتعالى على يد أشقائهن دون أن يتحرك ضمير هؤلاء الجاحدين الذين طمعوا فى ميراث شقيقاتهم ويرفضون كل محاولات إعادة تلك الحقوق لهن.
أيضا.. تؤكد التقارير الاجتماعية وسجلات المحاكم وشكاوى النساء وتساؤلاتهن المتكررة للعلماء ورجال الفتوى فى برامج ولجان الإفتاء أن رذيلة الحرمان من الميراث شائعة فى كل المحافظات، وتحولت الى مشكلة لها أبعادها الدينية والاجتماعية والأمنية فضلا عن تداعياتها الخطيرة على العلاقات الأسرية والاجتماعية.
هذا ما ينبغى أن ينشغل به علماء الإسلام لأن الحرمان من الميراث يمثل أبشع صور الظلم الذى تتعرض له المرأة فى العصر الحاضر، ويتضاعف هذا الظلم فى وقت لا ينبغى أن يتوقف العلماء والدعاة فيه عن التوعية والتوجيه الدينى وإصدار الفتاوى التى تحرم وتجرم سلوك من يأكل حقوق شقيقاته، وتبين ما ينتظره من عقاب إلهى، فالمرأة لها حقها الشرعى الذى حدده الخالق عزوجل، ولا يجوز الطمع فيه أو المماطلة فى تسليمه.
الانشغال بتعديل أنصبة الوارثين أو التشكيك فى تلك الأنصبة الشرعية المستقرة لكل من الرجل والمرأة هو- كما وصفه الأزهر فى بيانه الأخير- شكل من أشكال السفه الفكرى الذى لن يجد صدى عند جماهير المسلمين أو عند العلماء لأن النصوص المتعلقة بعلم الميراث في الإسلام نصوص قطعية محكمة راسخة لا تقبل الاجتهاد أو التغيير بإجماع الصحابة، والعلماء في كل العصور، وتناسب كل زمان ومكان وحال، فقد تَولَّى رب العالمين الله عز وجل تقسيم المواريث في القرآن الكريم؛ لأهميته، وعِظَم خطره، وإزالةً لأسباب النِّزاع والشِّقاق.
وأخيرا أهمس فى أذن كل من يرفع شعارات التجديد فى الفكر الإسلامى ليخدعنا ويضللنا بأن تجديد الفكر وعلوم الإسلام حِرفة دقيقة لا يُحسنها إلا العلماء الرَّاسخون، المشهود لهم بالديانة والتَّمكن، داخل الأروقة العِلمية، وليس على الشّاشات أو بين غير المُتخصّصين من عامة الناس.
من لا يدرك هذه الحقائق لا يستحق الانتساب الى الأزهر الشريف الذى ملأ علماءه الدنيا علما وفكرا وثقافة واجتهادا داخل مصر وخارجها.
حفظ الله الأزهر الذى سيظل مدرسة الوسطية والاعتدال الدينى فى العالم.
b_halawany@hotmail.com