كان رائد دراسة الأدب الشعبي، مصريا وعربيا، الراحل العلامة عبدالحميد يونس يدرك عن بصيرة عميقة، أهمية الدراسة المنهجية الأكاديمية للآداب الشعبية العربية، بمختلف فنونها، مكتوبة وشفاهية ومؤداة، وأنها بمثابة كنز الانفتاح على آداب الأمم الأخرى، وكذلك الانفتاح على الأدب الرسمي، الفصيح، إن جاز التعبير، وواعيا، مبكرا، أيضًا، بأهمية الدراسات البينية بين الفنون والآداب والتاريخ والفلسفة وغيرها.
ويمكن للمرء أن يرصد ذلك في أعماله في فترة مبكرة من حياته العلمية، بداية من دراساته عن : الظاهر بيبرس في الأدب الشعبي، والهلالية بين التاريخ والأدب الشعبي، والحكاية الشعبية، وخيال الظل، وانتهاء بمعجم الفولكلور.
اعتمد عبدالحميد يونس، في أغلب دراساته، على المنهج الموضوعاتي، التحليلي الفني، مستعينا بالوصفي التاريخي أيضا، لإبراز جماليات التراث والأدب الشعبي، عبر التركيز على بناه الفنية الجمالية والموضوعية وأثرها في المتلقي، وكذلك تأثيرها في الوجدان المصري والعربي، والقومي بعامة.
ولقد تطورت دراسة الأدب الشعبي، على يد تلامذة عبدالحميد يونس، وتحت عينيه، بظهور دارسة عظيمة هي سهير القلماوي، التي درست حكايات ألف ليلة وليلة، من منظور جديد ، وقتها، من خلال التحليل الفني لبنى هذه الحكايات، وعناصر التشويق وفلسفة الحكي، وأثر المرأة على الرجل واستمالته ودور عنصري الخير والشر، كمبدأين يشكلان الوجدان الشعبي العربي، في حكايات الليالي، وكذلك تناولت بعض الروايات الأخرى لليالي، سواء بالحذف أو الإضافة، وهنا تبدو دراستها قد قطعت شوطا منهجيا متقدما، حيث الاعتماد على المنهج الجمالي القائم على دراسة الموتيفة الشعبية ودورها في بناء الأحداث، وهي في تقديري ، يمكن أن أدعوها ب”الدراسة الثقافية لليالي”.
أما الراحل العلامة د أحمد مرسي، فكانت دراسته للأدب الشعبي، ذات طبيعة موتيفية أيضا، معتمدا على دور هذه الموتيفة رصد البنية الجمالية للأدب الشعبي، ويكمن للباحث أن يسترشد في هذا المقام، بدراسته القيمة عن الأغنية الشعبية، فقد حاول تقديم وصف للخصائص المميزة للاغنية الشعبية المصرية، محللا جوانبها الفنية وموضوعاتها، فهو قد أشار إلى خصائصها الأساسية ومنها الاعتماد على التكرار لتحقيق قدر من التماسك الفني، أو اللازمة، ويؤكد على دور ذلك في رسم صورة بعينها، أو وصف حدث ما، يقول:”وينهض التكرار، سواء كان تكرارا للحن، أو لأجزاء من النص الشعري، بتعميق تأثير الصورة أو العاطفة التي يعبر عنها في وجدان المستمعين، كما يزيد من إحساسهم بالإضافة تجاه ما يسمعونه، مما يجعلهم أكثر استعدادا للتأثر بما يقال، والتعاطف معه، كما أنه يهيئ للمغني الفرصة لالتقاط أنفاسه وتنشيط ذاكرته “(د.أحمد مرسي: الأغنية الشعبية..مدخل إلى دراستها، دار المعارف بمصر، ١٩٨٣، ص ص ١٣٧،١٣٨).
وهنا تأكيد على الدور الوظيفي لكل خاصية من خصائص الأغنية الشعبية، مما يشير إلى ما ألمحنا إليه قبلا من تطور منهاجية دراسة الأدب الشعبي، على يد تلامذة الرائد عبدالحميد يونس.
لعل من أهم ملامح هذا التحول، التأكيد على الإلمام بالدراسات الغربية والانفتاح على مناهجها الحديثة وأعلامها، وهو ما يتضح جليا في دراسة أحمد مرسي هذه، وتطبيقه على الأغنية الشعبية المصرية تحديدا، حيث تناول بالدراسة والتحليل إبداع الأغنية وانتشارها، ومراحل حياة الأغنية الشعبية، والأغنية القصصية، والشكل والمضمون، ووظائف الأغنية الشعبية، وتناول نماذج من هذه الأغنية في مناسباتها المختلفة، مثل أغاني الختان، أغاني ألعاب الأطفال، أغاني الخطبة والزواج، والحجاج، أغاني القدس، أغاني العمل الزراعي، الأغاني الوطنية، والبكائيات، موال أدهم الشرقاوي، شفيقة ومتولي، حسن ونعيمة، موال الطير، موال الفتى مهران، بالإضافة إلى غيرها من الاغاني والمواويل المتنوعة.
من هنا يتضح التركيز على الخصائص البنائية للأغنية، مع الاهتمام بأثرها النفسي والاجتماعي، وتلك نقطة التحول في الدراسة المنهجية للأدب الشعبي، والتي التقطت طرف الخيط فيها أحد تلامذة يونس، وذلك بالانفتاح أكثر على المناهج الأوروبية الحديثة، وخاصة المنهج السوسيوثقافي، وهو العلامة الراحل د.محمد رجب النجار، وذلك عبر دراساته التي أعدها موسوعية في بابها، من مثل: البطل في الملاحم والسير الشعبية، وشخصية جحا في الأدب الشعبي (جحا وانتشاره في العالم العربي)، وحكايات الشطار والعيارين في الأدب العربي، والأغنية الشعبية، والملاحم الشعبية العربية، والأدب الشعبي : أنماط من التناص الفلكلوري، والتراث الشعبي العربي دراسة سوسيوثقافية، وغيرها من دراساته القيمة في هذا الشأن. ولعل من أبرز الدارسات للأدب الشعبي من منظور بنائي، بالاستعانة بالوصفي التاريخي أيضا، د.نبيلة إبراهيم، والتي هي من تلامذة الرائد يونس أيضا، وقد تجلى ذلك دراساتها، من مثل: سيرة الأميرة ذات الهمة، والدراسات الشعبية بين النظرية والتطبيق، والقصص الشعبي بين الرومانسية والواقعية، ووغيرها، ولعل أهم ما يميز عمل رجب النجار ونبيلة إبراهيم، تحديدا، هو الاهتمام بالدراسة البينية، حيث قام النجار بالتطبيق على مسرح توفيق الحكيم، وذلك في كتابه “توفيق الحكيم والأدب الشعبي: أنماط من التناص الفلكلوري”، وقامت نبيلة إبراهيم بدراسة تأثير التراث والأدب الشعبي في الرواية وغيرها، وعلى هدي هذه المدرسة كانت دراسات العالم الجليل د.أحمد شمس الدين الجحاجي، نقدا وإبداعا، ودراسته البارزة في هذا الشأن لا تخفى على الدارس، والتي جاءت تحت عنوان: الأسطورة في المسرح المعاصر، بالإضافة إلى دراساته الأخرى في الأدب الشعبي، من مثل: السيرة الشعبية، والنبوءة أو قدر البطل في السيرة الشعبية، ومولد البطل في السيرة الشعبية، وغيرها.