سرحت بخيالى قليلا وسألت نفسى بشكل واضح: لو كنت من أهل الجزيرة العربية عندما هاجر سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، هل كنت أحب أن اكون وقتها من أهل مكة الذين هاجروا مع رسول الله أم من أهل المدينة المنورة الذين استقبلوا الرسول وناصروه؟ وعلى الرغم من أن السؤال قد يبدو سهلا من الناحية الظاهرية فإننى اكتشفت صعوبة الإجابة عنه وفشلت فى الإجابة رغم انى حاولت ذلك جاهدا.
انتابتنى الحيرة الحقيقية وانا أفاضل بين كونى مهاجرا أم انصاريا. تخيلت نفسى واحدا من هؤلاء الذين فروا بدينهم مع رسول الله، لم تكن الهجرة رحلة آمنة معلومة المدة مثلا يعرف المهاجر أنه سيعود بعد انتهائها لبيته وأهله وزراعته أو تجارته، بل كانت رحلة محفوفة بالمخاطر غير معلومة المدة، ولا يدرى المشاركون فيها أصلا لو كانوا سيعودون لمكة مرة أخرى أم لا، لكن تخيل شرف القيام برحلة تنفيذا لأمر الله اولا، ثم لتكون فى نفس المكان الذى سيكون فيه رسول الله ثانيا، حتى يكمل نشر رسالته للبشرية بعد أن ضاقت مكة وضجت بتلك الدعوة.
على الجانب الآخر، تخيلت نفسى واحدا من هؤلاء الأنصار الذين ظلوا يترقبون لحظة وصول رسول الله إلى يثرب. يا لجمالها من لحظة ويا له من انتظار. أقف وسط الأعناق المشرئبة انتظارا للحظة دخول النور إلى قلب أهلكته ظلمة المعاصى. أى شرف أن أكون من سكان المكان الذى سيقيم فيه رسول الله.ها هو الرسول الكريم يطلب من كل واحد منا نحن معشر الأنصار أن نختار مهاجرا لمؤاخاته. ترى من أختار من هؤلاء الرجال ليكون أخا لى اقاسمه بيتى وتجارتى وربما لو كانت لى زوجتان طلقت له واحدة لتزوجها؟ ثم لماذا لا أكون طموحا أتمنى أن تكون دارى هى التى سيختارها سيدنا محمد ليقيم فيها، كيف يكون رد فعل زوجتى وانا أزف لها تلك البشرى لتسارع بنقل كل متاعنا للدور الأرضى لقيم رسول الله فى الدور العلوى، حيث لا يليق أبدا أن يسكن فوق رسول الله أى ساكن. وحتى لو لم أحظ بهذا الشرف تخيل شرف أن يطأ حافر دابتك موطئا سبقك عليه حافر دابة رسول الله. كيف كان شعورى وأنا أرى رد فعل رسول الله عندما تحول الموقف يوم بدر من مجرد الحصول على العير إلى حرب مكتملة الأركان، وبعد أن فرغ قادة المهاجرين من كلماتهم المؤيدة لقرار رسول الله ظل الرسول يطلب المزيد من المشورة ففهم قائد الأنصار سعد بن معاذ وقال كلمات بليغة حفظها التاريخ منها: صل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، ووالله لئن خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، فسر الرسول وقال: سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم.
أكاد أتخيل مشاعرى عندما وجد بعض الأنصار شيئا فى نفوسهم، عندما وزع رسول الله غنائم غزوة حنين على قبائل قريش دونهم، فجمعهم وقال لهم من ضمن ما قال: ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله فى رحالكم، فوالذى نفسى بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار، فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا.
وأنا أشهدك يا رب العالمين بأنى سواء كنت مهاجرا أم أنصاريا، فإنى قد رضيت برسول الله قسما وحظا، فاقسم لى قبرا بجواره فى البقيع وحظا يحشرنى فى زمرته يوم القيامة آمين آمين.