كان حدثا تاريخيا بامتياز، ذلك الذى شهدته بريطانيا الأسبوع الماضى، فقد تولى رئاسة الحكومة هناك شاب من أصل هندى يدعى ريشى سوناك، بعد سباق انتخابى صعب داخل حزب المحافظين الذى ينتمى إليه، وبعد سلسلة تقلبات فى أعلى منصب للسلطة فى هذا البلد العريق، الذى ليست له سوابق فى التقلبات السياسية .
أصبح ريشى سوناك ـ 42 عاما ـ أصغر رئيس وزراء فى بريطانيا منذ أكثر من 200 عام، وثالث رئيس وزراء فى أقل من شهرين، والخامس فى غضون 6 سنوات، وهذا أسرع معدل لتغيير رؤساء الحكومات منذ ما يقرب من قرن فى هذا البلد العريق، المعروف بالتقاليد السياسية الراسخة، فمنذ صيف 2007 شغل كل من جوردون براون وديفيد كاميرون وتيريزا ماى وبوريس جونسون وليز تراس وأخيرا ريشى سوناك المنصب الأعلى فى بريطانيا، وفى المقابل كان هناك 3 رؤساء وزراء فقط خلال 28 عاما قبل ذلك، هم مارجريت تاتشر وجون ميجور وتونى بلير .
لكن المفارقة التاريخية حقا أن يضع التغيير فى هذا المنصب الأعلى مواطنا هندوسيا ملونا، تعود أصوله إلى البلد الذى كان مستعمرة بريطانية قرابة قرن من الزمان، من عام 1858 إلى 1947، وهو ما يؤكد أن العالم يتغير من حولنا، والمفاهيم والقناعات تتغير، صحيح أن هناك أبناء مهاجرين تولوا من قبل مناصب وزارية عدة فى بريطانيا، لكن هذه هى المرة الأولى التى يصعد فيها إلى المنصب الأعلى فى البلاد شخص ليس أبيض البشرة، وليس مسيحيا بروتستانتيا كما جرت العادة، ويحصل على دعم أكثر من نصف عدد النواب المحافظين فى البرلمان البريطانى .
لقد ارتقى سوناك في صفوف حزب المحافظين في غضون سبع سنوات فقط ، منذ انتخابه لأول مرة نائباً في مجلس العموم عام 2015، وأصبح وزيرا فى الحكومة المحلية أثناء رئاسة تيريزا ماي للوزراء، ثم ترقى فى حكومة بوريس جونسون إلى منصب وزير الخزانة فى فبراير 2020، وأبلى بلاء حسنا أثناء فترة إغلاق كورونا، فارتفعت شعبيته في استطلاعات الرأي بصورة مذهلة، لكنه اختلف مع جونسون بعد ذلك بشأن توجهات الأداء الاقتصادى واستقال من منصبه، وظل محتفظا بعلاقات طيبة مع جونسون حتى عاد زعيما للحزب ورئيسا للوزراء .
ولد سوناك فى بريطانيا عام 1980 لأبوين هنديين مهاجرين، كان أبوه طبيبا عاما وأمه صيدلانية، ورغم ذلك كان من مؤيدى تغيير قواعد الهجرة، وعبر عن ذلك قائلا : ” أعتقد أن الهجرة المدروسة يمكن أن تفيد بلادنا، لكن يجب أن نسيطر على حدودنا “، كما كان من مؤيدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، واعتبر أن ذلك سيجعل المملكة المتحدة أكثر حرية وعدلا وازدهارا .
تلقى سوناك تعليمه فى واحدة من أرقى المدارس الخاصة المرموقة، وعمل نادلا في المطاعم خلال العطلات الصيفية، ثم التحق بجامعة أكسفورد لدراسة الفلسفة والسياسة والاقتصاد، وأثناء دراسته للحصول على ماجستير في إدارة الأعمال في جامعة ستانفورد التقى بسيدة الأعمال أكشاتا مورتي، وهى ابنة ملياردير هندى، فتزوجا وأنجبا ابنتين .
ومن 2001 إلى 2004، عمل سوناك محللا ماليا في بنك “جولدمان ساكس”، ثم أصبح واحدا من أهم رجال المال والأعمال فى بريطانيا، ورغم أنه لم يتحدث علنا عن حجم أمواله إلا أنه يعد أحد أغنى أعضاء البرلمان البريطاني، وتقدر ثروته بـ 840 مليون دولار، ويتفوق بذلك على الملك تشارلز .
وفي أبريل الماضى أثار بعض النقاد المحافظين تساؤلات حول ثروة سوناك وزوجته، وما إذا كانا يدفعان ماعليهما من ضرائب، ويدركان حجم ضغوط تكلفة المعيشة التي تواجهها الأسر المتعثرة، وبسبب هذا اللغط خضعت أموال سوناك وعائلته لتدقيق شديد، كما سُلط الضوء على التفاصيل الضريبية لزوجته وريثة العائلة الثرية، التى صرحت فيما بعد بأنها ستبدأ دفع ضرائب للمملكة المتحدة عن أرباحها الخارجية، لتخفيف الضغط السياسي على زوجها .
ينتمي سوناك إلى جيل الهوية المزدوجة، حيث ولد في المملكة المتحدة ولكن أصوله ليست بريطانية، ويقول : ” هذه الهوية مهمة بالنسبة لى، وفيما يتعلق بالتنشئة الثقافية أنا أذهب للمعبد في عطلة نهاية الأسبوع – أنا هندوسي – لكن يمكنك أن تمزج بين الثقافتين وهذا ما أفعله، ربما كنت محظوظا لأننى لم أتعرض للكثير من العنصرية أثناء نشأتى، لكن هناك حادثة واحدة بقيت محفورة في ذاكرتى، حيث صدمنى بعضهم بكلمات مهينة تتعلق بالعرق الذي أنتمي إليه، عندما كنت أنا وأخى وأختى فى أحد المطاعم، شعرت حينها بصدمة حادة ما زلت أتذكرها حتى الآن، لكن لا يمكننى تصور حدوث مثل هذا الأمر اليوم في المملكة المتحدة “.
ويواجه رئيس الحكومة الشاب أوضاعا اقتصادية متدهورة، وارتفاعا غير مسبوق فى تكاليف المعيشة، وفى حملته الانتخابية كان يعلن أنه يعلم جيدا أنه قادم لإصلاح أزمة افتصادية عميقة، لكنه يفضل عدم الفوز على إطلاق وعود كاذبة، لكنه سيفعل كل ما يتطلبه الأمر .