من مكتبة الإسكندرية أو قل قلعة الثقافة العالمية، حيث تقف مكتبة الإسكندرية شامخة وشاهدة على عظمة الحضارة المصرية وتجذرها الثقافي، فالحضارة المصرية عمَّت الإنسان والعمران، وكانت حضارة ذات أبعاد ثقافية وأخلاقية وإنسانية، وكان التسامح أحد أهم ملامح الشخصية المصرية عبر تاريخها الطويل.
وها هي مكتبة الإسكندرية تصل بين الماضي والحاضر وتمزج بينهما مزجًا ثقافيًّا فريدًا، سواء فيما تحتويه من كنوز مكتباتها، أم بحوثها ومخرجاتها، أم في مؤتمراتها وندواتها، حيث عَقدت على مدار ثلاثة أيام تباعًا من الثلاثاء 22 نوفمبر حتى الخميس 24 نوفمبر الجاري مؤتمرها الدولي: “التعايش والتسامح وقبول الآخر .. نحو مستقبل أفضل”، جمعت فيه نخبة عظيمة من قيادات وعلماء الأديان في مصر وفي خارجها، قصد العمل المشترك على ترسيخ أسس التسامح الديني والعيش الإنساني المشترك، فالإنسان أخو الإنسان أينما كان، وأجمع المشاركون على كلمة سواء، هي لا صوت يعلو فوق صوت التسامح ونبذ كل ألوان العنف والكراهية والتمييز، هذا ما أكده فضيلة الإمام الأكبر في كلمته التي ألقاها نيابة عنه أ.د/ سلامة داود رئيس جامعة الأزهر الشريف، وما أكده البابا/ تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وأ.د/ أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية، وأ.د/ علي جمعة مفتي الديار المصرية السابق وعضو هيئة كبار العلماء، والقس الدكتور/ أندريه زكي رئيس الطائفة الإنجيلية، وأ.د/ نظير عياد أمين عام مجمع البحوث الإسلامية وسائر المتحدثين، وهو ما أكدت عليه في كلمتي أيضًا، إذ نؤمن جميعًا بأن رسالة الأديان قائمة على التسامح والسلام، التسامح والسلام مع النفس، ومع الأهل، ومع الزملاء، ومع الأصدقاء، والحجر والشجر والكون كله.
وأؤكد أن التسامح خُلقٌ أصيلٌ في ديننا، وفي ثقافتنا، وفي تكويننا وفطرتنا؛ فكتاب ربنا (عز وجل) يدعو إلى العفو والتسامح، حيث يقول سبحانه : “خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ”، ويقول سبحانه: “وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا”، ويقول سبحانه: “وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ”، ويقول سبحانه: “وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ”، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): “رَحِمَ الله رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى”، ويقول (صلى الله عليه وسلم): “دخل رجل الجنةَ بسماحَتِه، قاضيًا ومُتَقَاضيًا”، ويقول (صلى الله عليه وسلم): “إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ”.
مع تأكيدنا على أن تحديد المصطلحات وبيان مفهومها بمنتهى الدقة أمر في غاية الأهمية، فتحت مسمى الالتزام والأحوط والاحتياط فتحت أبواب التشدد التي ساقت وجرفت الكثيرين في طريق التطرف، حتى ظن الجاهلون أن التحوط في الدين يقتضي الأخذ بالأشد، وأن من يتشدَّد أكثر هو الأكثر تدينًا وخوفًا من الله (عز وجل)، مع أن الإسراع في التحريم دون تيقن ودليل قاطع أمر يُحسنه الجاهلون والمتطرفون، أما الفقه الحقيقي فهو رخصة من ثقة، وهو التيسير بدليل، وهو السماحة بيعًا وشراء، وقضاء واقتضاء، وإيمانًا بحق التنوع والاختلاف، ولم يقل أحد من أهل العلم المعتبرين إن الفقه هو التشدد؛ ذلك لأن الله (عز وجل) يقول: “يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ”، ويقول سبحانه: “وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ”.
فعلينا أن نجعل التسامح منهج حياة لنا في تعاملنا مع الآخر، في قبوله واحترامه وإنصافه.