وقفت (لقاء) في نافذةِ منزلها الريفي القديم، تنظر باتجاه الجسر المقابل للمنزلِ، في قلقٍ شديد ، فقد كانت على موعدٍ هامٍ ،مع “الأمل” كما أسمته. كانت على موعدٍ، مع صديقة شديدة الثراء، فكلتاهما تخرجتا من كليةِ العلوم، و تواعدتا على إنشاء معمل كبير، (لقاء) بتفوقها وعبقريتها، وصديقتُها (أمل) برأسِ المال، و لم تجدْ (لقاء) سببًا واضحًا لِكُلِ هذا القلق، سِوى اعتقادها، أن هذه سوف تكون نقطة تحول كبيرة،و تحدي للعالم بأسرهِ، و كان العالم في نَظرِها عائلة (عتاب)..
(عتاب) الذي تقدّم لأسرتها، لِيعلن أنّه يرى فيها زوجته الرائعة، التي سوف تشاركهُ الطريق، وتجيبه عيناها : “لا بديلٌ لك”. وقطع هذا اللحن الجميل، سؤالٌ برئ، من الأبِ يسألُ فارس الأحلام :
” أين أسرتك ؟ “
أجاب الفارس على استحياء بأنّ أسرته ترفض هذا الارتباط.
القصة التقليدية..
الأسرة الثرية، ترفض الامتزاج مع الأسرة البسيطة..
لكن الشيء غير التقليدي ..
الشيء النادر بل النادر جدًا..
هو المشاعر الطاهرة النقية، واتفاق القلب والعقل، وتوقيع كلاهما على هذه المشاعر الفياضة. فلم يكن حماسٌ مؤقتٌ، بل كانت روابط، تشابكت و تضافرت،..و بالرغم من هذا، لم تقم (لقاء) بلوم والدها، الذي أنهى المقابلة، رافضًاً أن يمس أحد كرامة ابنته..
و ظلت تحزنها صورة (عتاب)، و هو يخرج في انكسار، مهزومٌ في مشاعره، وتتذكر على الجانب الآخر، يوم أن همست إحدى الزميلات في أذنيها ناصحة :
” و لم لا يكون عقدٌ عرفي لتضعي الجميع أمام الأمر الواقع؟ “
و كانت (لقاء) جالسة، فنهضت لتصفعها، لولا أن جاهدت نفسها، لتخمد ثورتها، وسألتها في حدةٍ :
” أتتحدثين عني أنا و(عتاب)؟ واللهِ ما اختاره قلبي و عقلي إلا لِخُلقه، و ما اختارني إلا لاعتزازي بكرامتي .. نحلم بأسرة عمادها الدين، والأخلاق، ورضا الله عز و جل، أنهدم الجوهر، من أجل الشكل الباطل؟ و ماذا نقول للأبناء ؟! أنحكي لهم هذه القصة المشينة؟! لا.. فإما أن يأتي بكلِ أسرته، و يطلبني غاليةً من أسرتي، و أنا (مُتَوجة)، أو لا يأتي أبدًا .. أبدًا.. ورددت في نفسها، لتكتم غيظها،:
“المرء على دين خليله”، و هذه الزميلة الناصحة بالمنكر، التي تنضح بما فيها، لا يمكن أن أعرفها بعد اليوم.
و ما إن نهضت، حتى وجدت صديقتها الحميمة (وصال)، توأم (عتاب)، تضع يدها على كَتِفها، في حنو،ٍ لتمنعها من مغادرة المكان، هامسة: “والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس و الله يحب المحسنين”.. ففتحت بداخلها أبواب الرحمة، فما كان من (لقاء)، إلا أنها التفتت إلى زميلتها الحمقاء، قائلة برفق:
تفّهمي لعل الله يهديكِ .. إن ضاع الحب الوليد، فلا يجب أن تضيع معه الكرامة؛ فالكرامة أرض خصبة، ينبت فيها حب جديد، ولكن إذا ضاعت الكرامة، فالحب الجديد ينبت في الوحل، و ما ينبت في الوحل، أيامه معدودة .. و(المُتَوجة) لا تضع رأسها في الوحل أبدًا.
و في غرفتها الصغيرة، تفيق (لقاء) من شرودها، على رنين الهاتف، ويأتيها صوت (وصال) كالبلسم، يناشدها الصبر، وأفهمتها بأنها تحاول جاهدة، أن تحصل على موافقة والديها، وبأنها أخبرتهم بأن الفتيات ذات الثراء كثيرات، و لكن المرصعات بدماثة الأخلاق نادرات، فحركت بداخلها الأمل، وأيضًا حمستها لإثبات ذاتها، بمزيد من النجاحات. ولكن بسبب فرط قلقها، استلقت ” لقاء”، على سريرها الخشبي، وظلت تتقلب، يمينا و يسارًا، و لسوء حظها، انزلقت فارتطم رأسها بالأرض، وتحسست رأسها مبتسمة، فالألم العضوي لا يُمحو الابتسام، مثلما يفعل الألم المعنوي. وظلت على وضعها ثوانِ عدة، تنظر أسفل السرير، فوقعت عيناها على صندوق صغير، بداخله بعض أدواتها، و أكياس من بودر المطاط و البلاستيك، فجذبت الصندوق، ووضعته على المنضدة، وأخذت كتيب عنوانه “صناعة لعب الأطفال من المطاط”، وتذكرت شقيقتها الصغيرة، وهي تبكي، من أجل شراء عروسة، ففكرت في عمل العروسة، من المطاط، ولكي تكتمل المفاجأة، عملت العروسة بحجم شقيقتها البالغة عشر سنواتٍ. وتركتها تجف، و بدأت في تنفيذ فستان جميل لها، وبعد أن انتهت من تصميمه، اتجهت للعروسة لتلبسها الفستان، ولكن عيناها تسمرت فجأة، على جسم العروسة، الذي تمدد و انتفخ، وأصبح أكبر من حجم (لقاء) نفسها. إنه اِكتشاف مذهل..
اقتربت (لقاء)، من الجسم المطاط، الممدد، وأرادت أن تمزح مع أفراد أسرتها، فشقت جزء من هذا الجسم، وبدأت ترسم فتحات لعينيها، بعناية شديدة، ثم ارتدت هذا الجسم، وبدأت تنادي شقيقتها لتداعبها، ولكنها لم تستطع، لأنها بدأت تشعر باختناقٍ شديد، وبدأ جسم العروسة المطاط يضغط عليها، إلى أن أفقدها الوعي. وأفاقت بعد دقائق، وهي لا تدرى كم من الوقت مر عليها، وهي في هذه الصورة، ونهضت فشعرت بشيء غريب؛ نقص في وزنها، و قصر في طولها، فجرت إلى الِمرآة، لتتأكد من شعورها، وفجعت وهي ترى نفسها، و قد أصبحت فتاة صغيرة، في العاشرة من عمرها، و لم تتمالك نفسها، فأطلقت صرخة فزعة، و تجمع أفراد أسرتها، و تلجم لسان (لقاء)، و لم يعرفها أحد، و بدأت الأسئلة تمطرها :
” من أنتِ ؟” .. ” و كيف دخلت ؟ “
فاتجهت (لقاء) إلى سكين، تحاول أن تشق المطاط، و لكنه كان رقيق للغاية، ولم تتمكن من نزعه، لاندماجه الشديد مع جسدها، و جرحت يدها دون جدوى. فارتدت فستان العروسة الصغير، و انسحبت في صمت، على أمل أن تجد حلاً، عند أقرب طبيب.
ووقفت على الطريق، تشير إلى السيارات، إلى أن وقفت سيارة، تستقلها أسرة صغيرة، أشفقت عليها، ظناً منهم أنها فتاة صغيرة، و سألتها السيدة : هل تحتاجين إلى المساعدة ؟ فأجابت: ” أريد النزول إلى القاهرة” و تنبهت لصوتها، فكان أيضًا صوتًا لفتاة صغيرة، فيبدو أن المطاط ضغط على أحبالها الصوتية. وأكملت بثقة، أنها كانت بصحبه والدتها، و عند وقوف السائق، ليشتري بعض الطعام، غافلت أمها، ونزلت تشتري حلوى، وعند عودتها، لم تجد السيارة، فيبدو أن أمها انشغلت مع إحدى الراكبات، ولم تلاحظ غيابها. ونظرت (لقاء)، في أعيُن الأسرة، لتتأكد من سلامة، حديثها الملفق، وعندما اطمأنت، أكملت أنها في غاية الاطمئنان، لأنها تعرف العنوان جيدًا. أشفقت الأسرة عليها، واصطحبتها حيث أرادت، و هكذا يجد الإنسان نفسه في المحن، يستنجد بأقرب، الناس إلى قلبه، فكان المكان الذي اختارته، هو فيلا (وصال) و (عتاب). فكم عمِلا أبحاثًا معًا، على مادة المطاط، وبالتأكيد سوف يجدا لها حلا، وأفاقت على صوت صاحبة السيارة تسألها :
” لقد وصلنا هل أنتِ متأكدة من العنوان ؟ “
فتظاهرت (لقاء) بالاطمئنان، وابتسمت شاكرة، ونزلت في حيرة شديدة، ثم حسمت أمرها، و طرقت الباب الخارجي للفيلا، و فتحت الخادمة مستفسرة، فتلعثمت (لقاء) قليلا ثم أجابت :
” أريد مقابلة (وصال)، فأنا شقيقة صديقتها” .
و غابت الخادمة لحظات، ثم عادت و اصطحبتها للداخل، في غرفه الاستقبال، و ما هي إلا دقائق، و دخلت (وصال)، و معها شقيقها (عتاب)، يستطلعون الأمر، و ما إن وقعت عيونهما على الصغيرة، حتى داعبوها، ثم سألتها (وصال) :
” شقيقه من أيتها الجميلة؟ ” فأجابت وعيناها تلمعان: ” شقيقة (لقاء) ، وهي في ضيافة صديقتها (أمل)، لإعداد معمل المطاط “.
و أخرجت قصاصة ورق، كانت قد كتبت عليها رسالة مختصرة:
” استقبلوا شقيقتي لحين حضوري”.
و إن كان بداخلهم علامات استفهام كثيرة، إلا أن (وصال) احتضنتها و قبلتها، و علق (عتاب): ” كم تشبهين أختك كثيراً “.
ومر الموقف بسلام، و استدعت (وصال) الخادمة، أسرت لها بأن تعد غرفة الضيافة، لتكون في رعايتها. و سألتها الخادمة عن حقيبتها، فارتبكت الصغيرة، و تولت (وصال) الإجابة عنها، بأن الحقيبة ستصل في المساء، و في المساء أحضرت لها (وصال) ملابس جميلة، وأيقظتها، و فتحت الأكياس في مرح.
فإسعاد الآخرين كعطر الأزهار، يعم عبيرها على الطرفين، ثم استدارت إتجاه (لقاء) تسألها : ” إلى الآن لم أعرف اسمك؟ “
فارتبكت (لقاء) قليلا ثم قالت:
اسمي (شذا) ..
فردت (وصال):
” ما أجمله من اسم!” ارتدي هذا الفستان يا (شذا)، سنخرج الآن أنا وأنتِ و(عتاب)، لنزور بعض معالم القاهرة الساحرة، و نتناول العشاء بالخارج، و فرحت (لقاء)، و استمتعت بكل لحظة، متناسية ما هي فيه، وعند عودتها فرضت الأحداث عليها الشرود ..
و سألت نفسها :
” و ما آخر هذه الكذبة ؟ ألم آتي إلى هنا لأتخلص مما أنا فيه ؟”
و تناولت ورقة، و كتبت بالتفصيل كل ما حدث، و لم تجد في نفسها الشجاعة، لتقصه بلسانها.. و شعرت برجفة شديدة..
حتما سيتهمونها بالخبل و الجنون..
ووضعت الورقة فوق الوسادة، و ارتدت ملابسها استعداداً للطرد.
ودخلت (وصال) في هذه اللحظة، فبدا عليها الدهشة، وهى تلمح دموع (لقاء) المتلاحقة، و أمسكت بالورقة وقرأتها، وابتسمت ظنًا منها أنها دعابة، ولكن دموع (لقاء) المتلاحقة ألجمتها، فأخذت الورقة وغابت قليلا، ثم عادت و معها (عتاب)، الذي كان يبدو عليه التوتر، و الغضب، وتغيرت لهجته و هو يتحدث إلى (لقاء) :
” من أنتِ أيتها الصغيرة”؟ و لحساب أي صديق سخيف يمزح هذه المزحة الأكثر سخفا تعملين؟ “
و جذب (لقاء) من يدها، ليخرجها من الغرفة، و من المكان كله.
و صرخ النبض في عروقها، و النبض الطاهر النقي كالبصمة سرى في عروقه، فأحسها..
و تزلزل كيانه من الحيرة..
فتوسل إليها أن تقول الصدق، فكشفت عن أصابع يدها، واقتربت (وصال) لتجد أثر المطاط واضح، وقد غطى أظافرها تماما، و في حيرة شديدة، واندهاش لهذا الاكتشاف العجيب . دب اليقين في قلب (عتاب) و (وصال)، بأن هذه الصغيرة صادقة، و ما هي إلا (لقاء).
قدم (عتاب) اعتذاره، من خلال دموعه، متعهدًا لها بأن يخلصها مما هي فيه.
و مرت أيام، وشعرت (لقاء) بأن (وصال) و (عتاب) يدبران شيئاً ما، إلى أن دخلت (وصال)، حاملة نفس العبوات، و بداخلها بودر المطاط والبلاستيك، وطلبت إليها أن تساعدها في عمل نفس الخليط، وأخبرتها أنها ستجعلها ترتدي طبقات جديدة من المطاط، ليزيد سمكه، و بالتالي يسهل نزعه، و صدقتها (لقاء)، و فعلت ما طلبت.
و على الجانب الآخر، كان (عتاب) و (وصال) يقومان بعمل شكلين جديدين، من هذا الخليط، و بالفعل بدأت الأشكال تتمدد، و عند ذلك، طلبا من (لقاء) أن تحضر لهما صندوق، من الداخل..
و ذهبت (لقاء) داخل الفيلا، وعادت ومعها الصندوق، لتكتشف أن” عتاب” و (وصال) فقدا الوعي أيضًا، بعد أن ارتدى كلاهما الجسم المطاط، فأخذت تصرخ في وجههما:
” لم فعلتما هذا؟”
و بعد دقائق، عادا إلى وعيهما، لتقنعها (وصال) أنها مغامرة فريدة، وسنعود سويا بعد أن نستعيد طفولتنا، فترة من الزمن، الذي يمر سريعا..
و أفهمها (عتاب) بأنه أتفق مع صديق له، أن يتولى أمور ثلاثة أطفال من أقاربه، لسفره المفاجئ، وترك له حساب مفتوح، لكل طلباتهم، وإلحاقهم بمدرسة فخمة، بجوار الفيلا، ولم يحاول صديقه، أن يثقل عليه بالأسئلة، وبالفعل في المساء، أحضر لهم الصديق الزي المدرسي، و أخبرهم بموعد المدرسة في الصباح..
وارتدى (عتاب) السروال القصير والقميص، وارتدت الفتاتان الزي المدرسي، و هن في مرح شديد، لهذه التجربة المثيرة. و ذهب ثلاثتهم إلى المدرسة، ذات الطابع الفخم، وحديقتها الكبيرة تحتضن المبنى، بأشجارها الضخمة، و حشائشها التي كست أرجاء المكان. وجلسوا تحت تكعيبة من الياسمين، و كان اللون الأبيض من الياسمين يغطى التكعيبة تمامًا، و يتدلى على جانبيها، ورائحته الساحرة تنبعث في أرجاء المكان، و دق الجرس، ليعلن عن موعد بدء الحصة الأولى ..
و أخذ عتاب بخفة ظله، يوقعهن في مطب تارة، و ينقذهن تارة أخرى..
وذات يوم طلب منهن أن تساعداه في جمع التوت، وبالفعل تسلق الشجرة، وظل يجمع التوت، ويغيظ (وصال) و (لقاء)، ويلقى بالتوت للتلميذات الصغيرات، وهو يردد ضاحكاً :
“حسناوات المستقبل”
فغابت (لقاء) و(وصال) لحظات، و عادتا مصطحبين عم “جابر” الجنايني، و ما أن نزل من الشجرة، حتى وقع في قبضة عم “جابر” الجنايني، و(لقاء) تردد في همس:
” خلي الحسناوات ينفعوك”
و عند المديرة وقع العقاب على ثلاثتهم.
ففي خبث شديد (عتاب) أعترف للمديرة، بطريقة مسرحية بأن شقيقته و صديقتها هما من طلبتا منه التوت، و في اليوم التالي، نسقت الفتاتان خطة رداً على فعله (عتاب) ..
تظاهرت (لقاء) بأنها لم تعمل واجب العربي، و طلبت من (عتاب) نقل الواجب منه مرددة : “أنت تعلم عصا الأستاذ “رفاعي” . ودون أن يشعر نزعت من دفتره وريقات الواجب، في الوقت الذي كانت عصا الأستاذ “رفاعي” ترن، وهو يمر على الواجب. فأخذ (عتاب) يقلب الصفحات يمينًا و يسارًاً، دون جدوى، ثم نظر إلى (لقاء)، فلاحظ ابتسامة مكر، ترتسم على وجهها، و هي تخرج يدها من النافذة، التي بجانبها، فسألها عن ورقات الواجب، فأجابته ببساطة :
” هاهي”
وفتحت يدها، فطارت الأوراق، من النافذة، في الوقت الذي كان صوت العصا الغليظة يرن بالقرب منه، فدارت عيناه، مع نغمة العصا، و أرتجف غيظاً، وفى لمح البصر كتب (عتاب) في قصاصة من الورق شيئا ما، وأغمضت (لقاء) عيناها حتى لا ترى العصا، و هي تقع على يديه، و لكنها سمعت تصفيقاً حاداً .. ففتحت عينيها تستطلع الأمر فإذا بالأستاذ يُثني عليه، لِحضورهِ اليوم، رغم مرضه، و طلب منه أن ينزل لطبيبة المدرسة، فاستأذن أن يستند على (لقاء) لتساعده، و ما أن أغلق باب الفصل خلفهم، حتى اندفعت تجرى على السلم، خوفاً من عقابه، فانزلقت قدماها على السلم، وارتطم رأسها بالجدار، فشعرت بألم شديد، فأخذت تتحسس رأسها، وفتحت عينيها، لتجد نفسها على سريرها الخشبي، في بلدتها، فأخذت تفتح عينيها بمجهود شديد، لتكتشف بأن كل ما حدث، ما هو إلا حلم، استغرق كم من الوقت ؟ هي لا تدرى..
يا له من حلم، عجيب ثقيل في بعضه، و شيق و حالم في أغلبه !!
و سألت أمها :
” كم استغرقت في نومي هذا ؟ “
و قبل أن تجيبها، سمعت صوت سيارة، تقف أمام البيت، فاستدارت تجاه النافذة، لتفتحها و ينفتح معها عيناها و قلبها، وكل مشاعرها التي ادخرتها في نقاء، لمثل هذا اليوم..
فكان القادم المنتظر على غير موعد هو (عتاب)، و..
و أسرته..
وعلى وجهه ابتسامة التفاؤل ..
فلمعت عيناها، وملأ الفرح قلبها لرؤيتها، التي تحققت بأروع ما يكون ..
ورفعت وجهها للسماء تشكر الله، فتراءى لها صور لأطفال، كانوا يحلقون في السماء، و يلوحون لها بأجنحة بيضاء، وقد مزّقوا المطاط، متحررين منه، بِكلِ سهولةٍ ويسر، وهم يرددون ” ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب”.
وقفت (لقاء) في نافذةِ منزلها الريفي القديم، تنظر باتجاه الجسر المقابل للمنزلِ، في قلقٍ شديد ، فقد كانت على موعدٍ هامٍ ،مع “الأمل” كما أسمته. كانت على موعدٍ، مع صديقة شديدة الثراء، فكلتاهما تخرجتا من كليةِ العلوم، و تواعدتا على إنشاء معمل كبير، (لقاء) بتفوقها وعبقريتها، وصديقتُها (أمل) برأسِ المال، و لم تجدْ (لقاء) سببًا واضحًا لِكُلِ هذا القلق، سِوى اعتقادها، أن هذه سوف تكون نقطة تحول كبيرة،و تحدي للعالم بأسرهِ، و كان العالم في نَظرِها عائلة (عتاب)..
(عتاب) الذي تقدّم لأسرتها، لِيعلن أنّه يرى فيها زوجته الرائعة، التي سوف تشاركهُ الطريق، وتجيبه عيناها : “لا بديلٌ لك”. وقطع هذا اللحن الجميل، سؤالٌ برئ، من الأبِ يسألُ فارس الأحلام :
” أين أسرتك ؟ “
أجاب الفارس على استحياء بأنّ أسرته ترفض هذا الارتباط.
القصة التقليدية..
الأسرة الثرية، ترفض الامتزاج مع الأسرة البسيطة..
لكن الشيء غير التقليدي ..
الشيء النادر بل النادر جدًا..
هو المشاعر الطاهرة النقية، واتفاق القلب والعقل، وتوقيع كلاهما على هذه المشاعر الفياضة. فلم يكن حماسٌ مؤقتٌ، بل كانت روابط، تشابكت و تضافرت،..و بالرغم من هذا، لم تقم (لقاء) بلوم والدها، الذي أنهى المقابلة، رافضًاً أن يمس أحد كرامة ابنته..
و ظلت تحزنها صورة (عتاب)، و هو يخرج في انكسار، مهزومٌ في مشاعره، وتتذكر على الجانب الآخر، يوم أن همست إحدى الزميلات في أذنيها ناصحة :
” و لم لا يكون عقدٌ عرفي لتضعي الجميع أمام الأمر الواقع؟ “
و كانت (لقاء) جالسة، فنهضت لتصفعها، لولا أن جاهدت نفسها، لتخمد ثورتها، وسألتها في حدةٍ :
” أتتحدثين عني أنا و(عتاب)؟ واللهِ ما اختاره قلبي و عقلي إلا لِخُلقه، و ما اختارني إلا لاعتزازي بكرامتي .. نحلم بأسرة عمادها الدين، والأخلاق، ورضا الله عز و جل، أنهدم الجوهر، من أجل الشكل الباطل؟ و ماذا نقول للأبناء ؟! أنحكي لهم هذه القصة المشينة؟! لا.. فإما أن يأتي بكلِ أسرته، و يطلبني غاليةً من أسرتي، و أنا (مُتَوجة)، أو لا يأتي أبدًا .. أبدًا.. ورددت في نفسها، لتكتم غيظها،:
“المرء على دين خليله”، و هذه الزميلة الناصحة بالمنكر، التي تنضح بما فيها، لا يمكن أن أعرفها بعد اليوم.
و ما إن نهضت، حتى وجدت صديقتها الحميمة (وصال)، توأم (عتاب)، تضع يدها على كَتِفها، في حنو،ٍ لتمنعها من مغادرة المكان، هامسة: “والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس و الله يحب المحسنين”.. ففتحت بداخلها أبواب الرحمة، فما كان من (لقاء)، إلا أنها التفتت إلى زميلتها الحمقاء، قائلة برفق:
تفّهمي لعل الله يهديكِ .. إن ضاع الحب الوليد، فلا يجب أن تضيع معه الكرامة؛ فالكرامة أرض خصبة، ينبت فيها حب جديد، ولكن إذا ضاعت الكرامة، فالحب الجديد ينبت في الوحل، و ما ينبت في الوحل، أيامه معدودة .. و(المُتَوجة) لا تضع رأسها في الوحل أبدًا.
و في غرفتها الصغيرة، تفيق (لقاء) من شرودها، على رنين الهاتف، ويأتيها صوت (وصال) كالبلسم، يناشدها الصبر، وأفهمتها بأنها تحاول جاهدة، أن تحصل على موافقة والديها، وبأنها أخبرتهم بأن الفتيات ذات الثراء كثيرات، و لكن المرصعات بدماثة الأخلاق نادرات، فحركت بداخلها الأمل، وأيضًا حمستها لإثبات ذاتها، بمزيد من النجاحات. ولكن بسبب فرط قلقها، استلقت ” لقاء”، على سريرها الخشبي، وظلت تتقلب، يمينا و يسارًا، و لسوء حظها، انزلقت فارتطم رأسها بالأرض، وتحسست رأسها مبتسمة، فالألم العضوي لا يُمحو الابتسام، مثلما يفعل الألم المعنوي. وظلت على وضعها ثوانِ عدة، تنظر أسفل السرير، فوقعت عيناها على صندوق صغير، بداخله بعض أدواتها، و أكياس من بودر المطاط و البلاستيك، فجذبت الصندوق، ووضعته على المنضدة، وأخذت كتيب عنوانه “صناعة لعب الأطفال من المطاط”، وتذكرت شقيقتها الصغيرة، وهي تبكي، من أجل شراء عروسة، ففكرت في عمل العروسة، من المطاط، ولكي تكتمل المفاجأة، عملت العروسة بحجم شقيقتها البالغة عشر سنواتٍ. وتركتها تجف، و بدأت في تنفيذ فستان جميل لها، وبعد أن انتهت من تصميمه، اتجهت للعروسة لتلبسها الفستان، ولكن عيناها تسمرت فجأة، على جسم العروسة، الذي تمدد و انتفخ، وأصبح أكبر من حجم (لقاء) نفسها. إنه اِكتشاف مذهل..
اقتربت (لقاء)، من الجسم المطاط، الممدد، وأرادت أن تمزح مع أفراد أسرتها، فشقت جزء من هذا الجسم، وبدأت ترسم فتحات لعينيها، بعناية شديدة، ثم ارتدت هذا الجسم، وبدأت تنادي شقيقتها لتداعبها، ولكنها لم تستطع، لأنها بدأت تشعر باختناقٍ شديد، وبدأ جسم العروسة المطاط يضغط عليها، إلى أن أفقدها الوعي. وأفاقت بعد دقائق، وهي لا تدرى كم من الوقت مر عليها، وهي في هذه الصورة، ونهضت فشعرت بشيء غريب؛ نقص في وزنها، و قصر في طولها، فجرت إلى الِمرآة، لتتأكد من شعورها، وفجعت وهي ترى نفسها، و قد أصبحت فتاة صغيرة، في العاشرة من عمرها، و لم تتمالك نفسها، فأطلقت صرخة فزعة، و تجمع أفراد أسرتها، و تلجم لسان (لقاء)، و لم يعرفها أحد، و بدأت الأسئلة تمطرها :
” من أنتِ ؟” .. ” و كيف دخلت ؟ “
فاتجهت (لقاء) إلى سكين، تحاول أن تشق المطاط، و لكنه كان رقيق للغاية، ولم تتمكن من نزعه، لاندماجه الشديد مع جسدها، و جرحت يدها دون جدوى. فارتدت فستان العروسة الصغير، و انسحبت في صمت، على أمل أن تجد حلاً، عند أقرب طبيب.
ووقفت على الطريق، تشير إلى السيارات، إلى أن وقفت سيارة، تستقلها أسرة صغيرة، أشفقت عليها، ظناً منهم أنها فتاة صغيرة، و سألتها السيدة : هل تحتاجين إلى المساعدة ؟ فأجابت: ” أريد النزول إلى القاهرة” و تنبهت لصوتها، فكان أيضًا صوتًا لفتاة صغيرة، فيبدو أن المطاط ضغط على أحبالها الصوتية. وأكملت بثقة، أنها كانت بصحبه والدتها، و عند وقوف السائق، ليشتري بعض الطعام، غافلت أمها، ونزلت تشتري حلوى، وعند عودتها، لم تجد السيارة، فيبدو أن أمها انشغلت مع إحدى الراكبات، ولم تلاحظ غيابها. ونظرت (لقاء)، في أعيُن الأسرة، لتتأكد من سلامة، حديثها الملفق، وعندما اطمأنت، أكملت أنها في غاية الاطمئنان، لأنها تعرف العنوان جيدًا. أشفقت الأسرة عليها، واصطحبتها حيث أرادت، و هكذا يجد الإنسان نفسه في المحن، يستنجد بأقرب، الناس إلى قلبه، فكان المكان الذي اختارته، هو فيلا (وصال) و (عتاب). فكم عمِلا أبحاثًا معًا، على مادة المطاط، وبالتأكيد سوف يجدا لها حلا، وأفاقت على صوت صاحبة السيارة تسألها :
” لقد وصلنا هل أنتِ متأكدة من العنوان ؟ “
فتظاهرت (لقاء) بالاطمئنان، وابتسمت شاكرة، ونزلت في حيرة شديدة، ثم حسمت أمرها، و طرقت الباب الخارجي للفيلا، و فتحت الخادمة مستفسرة، فتلعثمت (لقاء) قليلا ثم أجابت :
” أريد مقابلة (وصال)، فأنا شقيقة صديقتها” .
و غابت الخادمة لحظات، ثم عادت و اصطحبتها للداخل، في غرفه الاستقبال، و ما هي إلا دقائق، و دخلت (وصال)، و معها شقيقها (عتاب)، يستطلعون الأمر، و ما إن وقعت عيونهما على الصغيرة، حتى داعبوها، ثم سألتها (وصال) :
” شقيقه من أيتها الجميلة؟ ” فأجابت وعيناها تلمعان: ” شقيقة (لقاء) ، وهي في ضيافة صديقتها (أمل)، لإعداد معمل المطاط “.
و أخرجت قصاصة ورق، كانت قد كتبت عليها رسالة مختصرة:
” استقبلوا شقيقتي لحين حضوري”.
و إن كان بداخلهم علامات استفهام كثيرة، إلا أن (وصال) احتضنتها و قبلتها، و علق (عتاب): ” كم تشبهين أختك كثيراً “.
ومر الموقف بسلام، و استدعت (وصال) الخادمة، أسرت لها بأن تعد غرفة الضيافة، لتكون في رعايتها. و سألتها الخادمة عن حقيبتها، فارتبكت الصغيرة، و تولت (وصال) الإجابة عنها، بأن الحقيبة ستصل في المساء، و في المساء أحضرت لها (وصال) ملابس جميلة، وأيقظتها، و فتحت الأكياس في مرح.
فإسعاد الآخرين كعطر الأزهار، يعم عبيرها على الطرفين، ثم استدارت إتجاه (لقاء) تسألها : ” إلى الآن لم أعرف اسمك؟ “
فارتبكت (لقاء) قليلا ثم قالت:
اسمي (شذا) ..
فردت (وصال):
” ما أجمله من اسم!” ارتدي هذا الفستان يا (شذا)، سنخرج الآن أنا وأنتِ و(عتاب)، لنزور بعض معالم القاهرة الساحرة، و نتناول العشاء بالخارج، و فرحت (لقاء)، و استمتعت بكل لحظة، متناسية ما هي فيه، وعند عودتها فرضت الأحداث عليها الشرود ..
و سألت نفسها :
” و ما آخر هذه الكذبة ؟ ألم آتي إلى هنا لأتخلص مما أنا فيه ؟”
و تناولت ورقة، و كتبت بالتفصيل كل ما حدث، و لم تجد في نفسها الشجاعة، لتقصه بلسانها.. و شعرت برجفة شديدة..
حتما سيتهمونها بالخبل و الجنون..
ووضعت الورقة فوق الوسادة، و ارتدت ملابسها استعداداً للطرد.
ودخلت (وصال) في هذه اللحظة، فبدا عليها الدهشة، وهى تلمح دموع (لقاء) المتلاحقة، و أمسكت بالورقة وقرأتها، وابتسمت ظنًا منها أنها دعابة، ولكن دموع (لقاء) المتلاحقة ألجمتها، فأخذت الورقة وغابت قليلا، ثم عادت و معها (عتاب)، الذي كان يبدو عليه التوتر، و الغضب، وتغيرت لهجته و هو يتحدث إلى (لقاء) :
” من أنتِ أيتها الصغيرة”؟ و لحساب أي صديق سخيف يمزح هذه المزحة الأكثر سخفا تعملين؟ “
و جذب (لقاء) من يدها، ليخرجها من الغرفة، و من المكان كله.
و صرخ النبض في عروقها، و النبض الطاهر النقي كالبصمة سرى في عروقه، فأحسها..
و تزلزل كيانه من الحيرة..
فتوسل إليها أن تقول الصدق، فكشفت عن أصابع يدها، واقتربت (وصال) لتجد أثر المطاط واضح، وقد غطى أظافرها تماما، و في حيرة شديدة، واندهاش لهذا الاكتشاف العجيب . دب اليقين في قلب (عتاب) و (وصال)، بأن هذه الصغيرة صادقة، و ما هي إلا (لقاء).
قدم (عتاب) اعتذاره، من خلال دموعه، متعهدًا لها بأن يخلصها مما هي فيه.
و مرت أيام، وشعرت (لقاء) بأن (وصال) و (عتاب) يدبران شيئاً ما، إلى أن دخلت (وصال)، حاملة نفس العبوات، و بداخلها بودر المطاط والبلاستيك، وطلبت إليها أن تساعدها في عمل نفس الخليط، وأخبرتها أنها ستجعلها ترتدي طبقات جديدة من المطاط، ليزيد سمكه، و بالتالي يسهل نزعه، و صدقتها (لقاء)، و فعلت ما طلبت.
و على الجانب الآخر، كان (عتاب) و (وصال) يقومان بعمل شكلين جديدين، من هذا الخليط، و بالفعل بدأت الأشكال تتمدد، و عند ذلك، طلبا من (لقاء) أن تحضر لهما صندوق، من الداخل..
و ذهبت (لقاء) داخل الفيلا، وعادت ومعها الصندوق، لتكتشف أن” عتاب” و (وصال) فقدا الوعي أيضًا، بعد أن ارتدى كلاهما الجسم المطاط، فأخذت تصرخ في وجههما:
” لم فعلتما هذا؟”
و بعد دقائق، عادا إلى وعيهما، لتقنعها (وصال) أنها مغامرة فريدة، وسنعود سويا بعد أن نستعيد طفولتنا، فترة من الزمن، الذي يمر سريعا..
و أفهمها (عتاب) بأنه أتفق مع صديق له، أن يتولى أمور ثلاثة أطفال من أقاربه، لسفره المفاجئ، وترك له حساب مفتوح، لكل طلباتهم، وإلحاقهم بمدرسة فخمة، بجوار الفيلا، ولم يحاول صديقه، أن يثقل عليه بالأسئلة، وبالفعل في المساء، أحضر لهم الصديق الزي المدرسي، و أخبرهم بموعد المدرسة في الصباح..
وارتدى (عتاب) السروال القصير والقميص، وارتدت الفتاتان الزي المدرسي، و هن في مرح شديد، لهذه التجربة المثيرة. و ذهب ثلاثتهم إلى المدرسة، ذات الطابع الفخم، وحديقتها الكبيرة تحتضن المبنى، بأشجارها الضخمة، و حشائشها التي كست أرجاء المكان. وجلسوا تحت تكعيبة من الياسمين، و كان اللون الأبيض من الياسمين يغطى التكعيبة تمامًا، و يتدلى على جانبيها، ورائحته الساحرة تنبعث في أرجاء المكان، و دق الجرس، ليعلن عن موعد بدء الحصة الأولى ..
و أخذ عتاب بخفة ظله، يوقعهن في مطب تارة، و ينقذهن تارة أخرى..
وذات يوم طلب منهن أن تساعداه في جمع التوت، وبالفعل تسلق الشجرة، وظل يجمع التوت، ويغيظ (وصال) و (لقاء)، ويلقى بالتوت للتلميذات الصغيرات، وهو يردد ضاحكاً :
“حسناوات المستقبل”
فغابت (لقاء) و(وصال) لحظات، و عادتا مصطحبين عم “جابر” الجنايني، و ما أن نزل من الشجرة، حتى وقع في قبضة عم “جابر” الجنايني، و(لقاء) تردد في همس:
” خلي الحسناوات ينفعوك”
و عند المديرة وقع العقاب على ثلاثتهم.
ففي خبث شديد (عتاب) أعترف للمديرة، بطريقة مسرحية بأن شقيقته و صديقتها هما من طلبتا منه التوت، و في اليوم التالي، نسقت الفتاتان خطة رداً على فعله (عتاب) ..
تظاهرت (لقاء) بأنها لم تعمل واجب العربي، و طلبت من (عتاب) نقل الواجب منه مرددة : “أنت تعلم عصا الأستاذ “رفاعي” . ودون أن يشعر نزعت من دفتره وريقات الواجب، في الوقت الذي كانت عصا الأستاذ “رفاعي” ترن، وهو يمر على الواجب. فأخذ (عتاب) يقلب الصفحات يمينًا و يسارًاً، دون جدوى، ثم نظر إلى (لقاء)، فلاحظ ابتسامة مكر، ترتسم على وجهها، و هي تخرج يدها من النافذة، التي بجانبها، فسألها عن ورقات الواجب، فأجابته ببساطة :
” هاهي”
وفتحت يدها، فطارت الأوراق، من النافذة، في الوقت الذي كان صوت العصا الغليظة يرن بالقرب منه، فدارت عيناه، مع نغمة العصا، و أرتجف غيظاً، وفى لمح البصر كتب (عتاب) في قصاصة من الورق شيئا ما، وأغمضت (لقاء) عيناها حتى لا ترى العصا، و هي تقع على يديه، و لكنها سمعت تصفيقاً حاداً .. ففتحت عينيها تستطلع الأمر فإذا بالأستاذ يُثني عليه، لِحضورهِ اليوم، رغم مرضه، و طلب منه أن ينزل لطبيبة المدرسة، فاستأذن أن يستند على (لقاء) لتساعده، و ما أن أغلق باب الفصل خلفهم، حتى اندفعت تجرى على السلم، خوفاً من عقابه، فانزلقت قدماها على السلم، وارتطم رأسها بالجدار، فشعرت بألم شديد، فأخذت تتحسس رأسها، وفتحت عينيها، لتجد نفسها على سريرها الخشبي، في بلدتها، فأخذت تفتح عينيها بمجهود شديد، لتكتشف بأن كل ما حدث، ما هو إلا حلم، استغرق كم من الوقت ؟ هي لا تدرى..
يا له من حلم، عجيب ثقيل في بعضه، و شيق و حالم في أغلبه !!
و سألت أمها :
” كم استغرقت في نومي هذا ؟ “
و قبل أن تجيبها، سمعت صوت سيارة، تقف أمام البيت، فاستدارت تجاه النافذة، لتفتحها و ينفتح معها عيناها و قلبها، وكل مشاعرها التي ادخرتها في نقاء، لمثل هذا اليوم..
فكان القادم المنتظر على غير موعد هو (عتاب)، و..
و أسرته..
وعلى وجهه ابتسامة التفاؤل ..
فلمعت عيناها، وملأ الفرح قلبها لرؤيتها، التي تحققت بأروع ما يكون ..
ورفعت وجهها للسماء تشكر الله، فتراءى لها صور لأطفال، كانوا يحلقون في السماء، و يلوحون لها بأجنحة بيضاء، وقد مزّقوا المطاط، متحررين منه، بِكلِ سهولةٍ ويسر، وهم يرددون ” ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب”.